الشتات الحلقة الثالثة عشر " الهروب من المخيم "

الكاتب: 

الدكتور محمد ربيع

كاتب وشاعرومفكر - واشنطن دي سي
الاثنين, أكتوبر 11, 2021 - 17

الهروب من المخيم
بعد الانتهاء من دراسة الصف السادس الابتدائي في مدرسة عقبة جبر في عام 1952 انتقلت مع عدد من الأصدقاء، كان معظمهم من أولاد العباسية إلى مدرسة أريحا الثانوية للبنين، وذلك لتكملة المرحلة الابتدائية فيها، والتي كانت تنتهي في الصف السابع الابتدائي. لا أتذكر لماذا ولا كيف انتقلنا، لكن الخطوة كانت مفيدة، على الرغم من أننا كنا نذهب من المخيم إلى مدرستنا في أريحا مشياً على الأقدام. لقد فتحت لنا تلك الخطوة آفاقاً جديدة للتعرف الى أولاد من عائلات مستقرة وآمنة، ينتمون لمدن وقرى لم تعش تجربة التشرد واللجوء مثلنا، ومكنتنا من قضاء جزء كبير من وقتنا في أجواء نظيفة توحي بالأمل تختلف كثيراً عن أجواء المخيم القاتمة. لكن النمو السكاني المطرد في مدينة أريحا وفي المخيمات المحيطة بها دفع وزارة التربية والتعليم الأردنية إلى اتخاذ قرار بجعل مدرسة أريحا للبنين مدرسة ثانوية كاملة. كان على خريجي تلك المدرسة في السنوات السابقة أن يبحثوا عن مدارس أخرى بعيداً عن أريحا ليواصلوا دراستهم الثانوية، حيث كانت الأغلبية تذهب إلى القدس للالتحاق بالمدرسة الرشيدية أو المدرسة الإبراهيمية. ولقد كان من نتائج ذلك القرار منح أولاد صفي من التلاميذ فرصة الاستحواذ على مكانة النخبة في مدرسة هشام بن عبد الملك وفي مدينة أريحا لخمس سنوات متتالية. لكنه تسبب في المقابل في حرماننا من الدراسة في مدارس عريقة مثل الرشيدية في القدس وكلية الحسين في عمان، وتحت إشراف أساتذة يتمتعون بالكفاءة والخبرة لتدريس طلاب يستعدون لامتحان الثانوية العامة الذي اشتهر بصعوبته، ومن بعدها الالتحاق بجامعات في الخارج. 

تقع مدرسة الأولاد في أريحا بجانب مدرسة البنات، ما جعل من السهل على الأولاد والبنات أن يتعرفوا الى بعضهم بعضاً، خاصة وأن بعض الأساتذة كانوا يدرسون في المدرستين ويقومون بنقل أخبار الطلبة من مكان لآخر. وهذا فتح المجال لي ولأكثر من فتاة أن نراقب بعضنا البعض، وشجعني على بناء علاقة حب مع إحدى الفتيات عن بعد، حب عذري أملته ظروف الحياة وتقاليد المجتمع. كانت تنتظرني في شرفة منزلها حتى أصل من عقبة جبر لتنزل إلى الشارع وتسير ببطء حتى الحق بها، نتبادل النظرات والابتسامات عن قرب، ونهمس ببعض الكلمات التي لم تزد كثيرا عن تحية الصباح، إلا أن النظرات كانت تتحول بسرعة إلى نسمات منعشة للروح، فيما تتحول الكلمات على بساطتها إلى ذكريات جميلة يحتضنها القلب ويختزنها الوجدان. كان أقصى ما نفعله هو التواعد على الذهاب إلى دار السينما الوحيدة في المدينة، سينما هشام، وهناك نجلس في أماكن متقاربة، نتبادل النظرات ونحلم حتى ينتهي العرض ونفترق سعداء. كان اللقاء الأول والأخير بيننا وجها لوجه قد حدث في القدس حين قابلتها مع أختها وابنة عمها وتبادلنا الكلمات وسمحنا لأيدينا أن تتعانق وتتعطر بعرق بعضها بعضاً، وفتحنا المجال لعيوننا كي تبحر في البحر الآخر لدقائق كانت بعمر الزمن وحنان السماء. سافرت بعدها إلى القاهرة لمواصلة دراستي الجامعية، وحين عدت في العطلة الصيفية بعد حوالي ثمانية أشهر وجدت أن تقاليد العائلة فرضت على الفتاة ذات العيون الخضراء أن تتزوج ابن عمها.

وجد صديقي العزيز والشاعر الرقيق حسن الخطيب في قصة حبي موضوعاً جميلاً ألهمه كتابة العديد من قصائد الغزل الرائعة التي أعجبتني وأغرتني على تقليدها. كنت أحفظ بعض المعلقات عن ظهر قلب، وأحسن قراءة الشعر، كما كنت أكتب الشعر الوطني الذي يحكي بعض ما جرى لنا على طول طريق الشتات، ولذا لم يخطر ببالي كتابة الغزل، إذ كنت أعتبر كتابة الشعر الغزلي عملاً يتنافى مع جدية المرحلة التي كنا نمر بها ومع مسئوليتنا تجاهها. لكنني غيرت رأيي بسرعة بعد أن قرأت ما كتبه حسن عني وعن حبيبتي، إذ وجدت الغزل في شعره يلبس عباءة الحب من دون أن يتنازل عن كبريائه أو مسئوليته الوطنية وحسه الإنساني، كما وجدت أن الوطنية حين تتعطر بعطر الغزل تبدو أكثر دلالاً وجاذبية والتصاقاً بالقلب. كتبت الكثير من القصائد، لكنني لم اُطلعَ أحداً على ما كتبت، احتفظت بها حتى يحين الوقت المناسب. وفي الواقع، كان الشخص الوحيد الذي أردت أن أعرض عليه أشعاري أولاً لأسمع رأيه فيها وأقرر مستقبلي مع الشعر على أساسه هو الأستاذ أحمد الجوهري، ذلك الأستاذ الذي أحببته واحترمته أكثر من أي أستاذ آخر. إلا أن ميل الأستاذ الجوهري للجدية جعلني أنتظر حتى يجيء الوقت المناسب، لكن الوقت المناسب عاندني، وأبى أن يأتي على الرغم من توسلاتي... انتظر طويلاً حتى تم إحراق الورق وما عليه من أشعار. نتيجة لذلك، رثت مَلكةُ الشعر أولادها بالدخول في حالة من الغيبوبة دامت أربعة عقود متتالية، وحين صحت وجدت نفسها في المهجر تعيش في مكان آخر بعيد عن الوطن، وفي ظل ظروف مختلفة تماماً... ظروف لا تعرف الفقر أو الحاجة أو الحرمان، لكنها تقاسي غربة الجسد وإغتراب الروح.

تعرفت في مخيم عقبة جبر على عديد الأصدقاء، وعلى الكثير غيرهم بعد التحاقي بمدرسة أريحا للبنين التي سميت فيما بعد "مدرسة هشام بن عبد الملك الثانوية". وأذكر من بين أولئك الأصدقاء الأعزاء، ومن أسماء القرى والمدن التي جاؤوا منها كل من عبد الرحمن عرار وأحمد أبو زيد ومحمد نوفل ونمر زينة ومحمد أبو عيد وعودة أبو عودة من قرية العباسية، إسماعيل أبو حية وموسى أبو رداحه ومحمد الدلو من مدينة اللد، ومحيي الدين النجار من قرية بيت محسير، وخليل السيد من قرية بيت دجن، وعادل الناطور من قرية كفر عانة، وإبراهيم النادي وأحمد أبو عماشه من قرية ساكيه، وعلي إبراهيم من قرية بيت نتيف، وجمال الجعفري من مدينة الرملة، وحنا فراج وبرهم حتر من مدينة السلط، وفاروق جودة من مدينة يافا، وسمير ومروان وإبراهيم عريقات من قرية أبو ديس التي تعتبر اليوم جزءاً من القدس، وفاروق ووائل زلاطيمو ورمزي ونبيل عبده وحاتم الحسيني من مدينة القدس، وإبراهيم العزايزه ومحمد درويش من مدينة أريحا، ومحمد يعقوب من قرية خربة اللوز، وإسماعيل عبد الهادي من قرية سلمه، وعدنان وعادل أبو النادي من قرية المغار، وحسن الخطيب، ومحمد النبتيتي، ومفيد نحلة، وعلى أحمد، ومحمد وشاكر ياغي، وشكري الطاهر. كان والد شكري قد تزوج اربع مرات وخلف ثلاثين بنتاً وولداً لم يكن بإمكانه أن يحفظ أسماءهم جميعا. بعد نصف قرن تماماً قمت بزيارة الصديق إسماعيل أبو حية في بيته في جبل الحسين في عمان لأكتشف أثناء الحديث أن عدد أحفاده وصل إلى ثلاثين حفيداً، وأن الحبل - كما يقولون - ما يزال على الجرار. وفي كل محطة لاحقة توقفتْ فيها رحلة الحياة قليلاً أو طويلاً أضفت المزيد من الأصدقاء، من نابلس وضواحيها، ومن رام الله وعمان، والقاهرة، وألمانيا، وأمريكا، والكويت، ولبنان، والمغرب، وسوسرا، وغيرها من بلاد قضيت فيها ما يزيد على ثلثي عمري. 

ومن بين الأساتذة الذين تعلمت على أيديهم أو تعرفت اليهم عن قرب وأصبحوا أصدقاء أكن لهم الاحترام والتقدير، أذكر الأستاذة رزق أبو إرشيد، وأحمد الجوهري، وأحمد أبو غوش، وعلي الأمريكاني، ودرويش الجعفري الذي عمل بعد التدريس فترة طويلة مع شركة طيران عالية الأردنية، وعبد الرحمن أبو رباح، وحسين الأمريكاني، وزكي الناطور، وشكري إعْمر الذي كان يعرج بسبب حادثة وقعت له في صباه نتج عنها انزلاق عظمة الفخذ من مكانها الطبيعي في الحوض. ومع أن شكري كان يلبس حذاء في رجله المصابة يرتفع عن الأرض حوالي عشرة سنتيمترات، إلا أن رجله تلك كانت تبدو أقصر من الثانية بحوالي عشرة سنتيمترات أخرى. لكن شكري لم يفقد الأمل، وحين ذهب إلى القاهرة في أواخر الخمسينيات لمتابعة دراسته الجامعية هناك، أجرى له أحد أختصاصيي العظام المصريين عملية جراحية أعادت وضع العظام في مكانها الطبيعي، ما جعله يستعيد مشيته وقامته وحيويته ويسير من دون حذاء ثقيل بعد فترة حرمان وقلق دامت حوالي خمس عشرة سنة متتالية


Deprecated: Directive 'allow_url_include' is deprecated in Unknown on line 0