الشتات الحلقة الحادية عشر " إحصاء السكان "

الكاتب: 

الدكتور محمد ربيع

كاتب وشاعرومفكر - واشنطن دي سي
الثلاثاء, سبتمبر 7, 2021 - 05

إن ضبط عملية توزيع المعونات على المستحقين والحيلولة دون وقوع تجاوزات وعمليات غش، حتم قيام مسئولي وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين بإجراء إحصاء عام لسكان المخيم، وذلك للتأكد من حصول كل أسرة على بطاقة تموين تعكس عدد أفرادها بدقة. وفي اليوم المحدد لبدء عملية الإحصاء، نصب المسئولون عدة خيام موزعة على ثلاث مجموعات متباعدة تقريباً، وقاموا ببناء سور مرتفع من الأسلاك الشائكة حولها بحيث أصبح المكان معسكراً معزولاً عما حوله من بيوت وبشر. فتحوا للمعسكر بابين رئيسيين فقط، كان أحدهما للدخول والآخر للخروج، وذلك من أجل ضبط حركة المرور والتحكم فيها. كانت الخطوة الأولى في عملية الإحصاء تبدأ بدخول الشخص المعني من الباب الرئيسي، والمرور أولاً على خيمة من خيام المجموعة الأولى، يجلس فيها موظفون مهمتهم إصدار بطاقة تسجيل لكل شخص تحمل اسمه وعمره واسم عائلته وقريته أو مدينته وغير ذلك من معلومات أساسية. 

أما الخطوة الثانية، فكانت تبدأ بانتقال الشخص حاملاً بطاقته في يده إلى خيمة من خيام المجموعة التالية، يتواجد فيها ممرضون مهمتهم تطعيم الشخص المعني في الكتف ووضع ختم على بطاقته. بعد ذلك، يمر الشخص الذي جرى تطعيمه على خيمة من خيام المجموعة الثالثة والأخيرة، وهناك يقوم موظفون باستلام بطاقات التسجيل من الأشخاص المطعمين بعد التأكد من هوياتهم ومن أنه تم تطعيمهم فعلاً، ومن ثم تسليمها لموظفين مهمتهم فرزها وترتيبها وتعدادها. وبعدها كان الحراس يقودون كل من أتم هذه الخطوات إلى باب الخروج. كانت عملية التطعيم تجري للتأكد من عدم عودة أي شخص مرة ثانية للمعسكر والحصول على بطاقة تسجيل باسم مختلف، وبالتالي إضافة شخص وهمي للأسرة المعنية تمكنها من الحصول على مخصصات إضافية باسم شخص لا وجود له. لذا كان من المفروض أن تحول تلك العملية المنظمة دون وقوع حالات تزييف شخصية، وتلغي احتمالات تكرار إحصاء أي شخص أكثر من مرة.

لكن حاجة الناس الماسة للمعونات الغذائية، خاصة الأسر الكبيرة، دفعتهم لإيجاد طريقة للتحايل على عملية الإحصاء وزيادة عدد أفراد أسرهم المسجلين لدى وكالة الغوث، وذلك من خلال تكرار دخول أطفالهم إلى المعسكر وهروبهم منه قبل أن تتم عملية تطعيمهم. كانت عملية التحايل تتم بقيام الولد أو الشاب المعني بدخول المعسكر من الباب الرئيسي بشكل طبيعي، وبعد إتمام الخطوة الأولى والحصول على بطاقة تسجيل، كان الولد يهرب قبل الوصول إلى خيمة التطعيم، حيث يقوم بتسلق سور المعسكر بسرعة ليتلقفه الأهل الذين يقفون في انتظاره على الجانب الآخر من السور. بعد انتهاء الدوام الرسمي، كان الأهل يسلمون البطاقات لموظفي تدقيق تم الاتفاق معهم مسبقاً، وذلك مقابل رشوات مالية محددة لكل رأس، وكان هؤلاء يقومون في اليوم التالي بضم تلك البطاقات لما يكون قد تجمع لديهم من بطاقات أشخاص تمت عملية إحصائهم وتطعيمهم بطريقة قانونية. لم تستمر هذه العملية طويلاً، إذ تمكن المسئولون من التغلب عليها بعد يومين، وذلك من خلال زيادة عدد الحراس الذين أسندت إليهم مهمة مرافقة الناس في طريقهم من خيام التسجيل إلى خيام التطعيم.
في اليوم الثالث على ما أظن، ذهبت إلى المعسكر بهدف إتمام عملية الإحصاء كغيري من الصبية، لكن مسئول الخيمة الأولى أصر على أنني مررت عليهم قبل ذلك بيومين، وبالتالي رفض إصدار بطاقة تسجيل لي. وبعد تدخل مدير التسجيل بناء على توسلاتي، أمرني المسئول، كما أمر أربعة صبية آخرين مثلي، بالعودة إلى البيت وإحضار والدي. جاء العبد أبو ربيع غاضباً وخائفاً في نفس الوقت، غاضباً من تصرف المسئولين، وخائفاً من احتمال إصرارهم على رفض إدخالي في بطاقة التموين. وقبل الذهاب إلى المعسكر لمقابلة مدير الإحصاء، أخبر العبد أبو ربيع أقاربه وأصدقاءه بما حدث، ما جعلهم يرافقوننا في اليوم التالي إلى المعسكر. وقبل أن نصل إلى ذلك المكان، كان الخبر قد انتشر في أرجاء المخيم، ما دفع أعداداً كبيرة من الناس إلى التجمع خارج السور، يتابعون ما يجري في داخله باهتمام بالغ. 

بعد نقاش حاد بين والدي والمدير أمام خيمته الخاصة، أصر الرجل على موقفه، ورفض بالتالي السماح لي بإتمام عملية الإحصاء كغيري، قائلا للوالد، ربما أغرى شخص آخر ابنك ودفع له بعض القروش ليهرب قبل التطعيم. وهنا، وحتى يثبت العبد أبو ربيع للمسئول أن ابنه لم يرتكب جريمة التهرب من التطعيم، وأن الاتهام الموجه لذلك الصبي غير صحيح، بدأ الوالد في استجوابي، وتدريجياً ارتفع صوته وزاد غضبه ونسي نفسه تماماً. ثم قام بحل حزام بنطلونه وأخذ يضربني بليونة أولاً ثم بقسوة على أمل أن يلين قلب المسئول ويتدخل لإيقاف عملية العقاب التي لم يكن لها مبرر، إلا أن المسئول لم يكترث لما كان يجري أمامه. وبسبب معرفة الكثيرين من الناس في الخارج بحيثيات القضية، وقيامهم بمتابعة ما فعله العبد أبو ربيع بابنه، وخوفاً من احتمال تعرض أبنائهم لنفس المصير، فإن المئات منهم تظاهروا وثاروا مهددين بمهاجمة المعسكر وحرق كل ما فيه من سجلات وموظفين. وفي ضوء ذلك الهيجان الشعبي، تدخل المدير العام بسرعة، حيث قام بتهدئة مشاعر الناس وطمأنتهم، والاعتذار عما قام به موظفوه تجاهي، ثم أخذني من يدي حتى أتممت عملية التسجيل والتطعيم. عدت إلى بيتي بعدها حزيناً، أعاني آلاماً شديدة، إلا أن مواساة والدتي خففت عني الألم كثيراً. أما العبد أبو ربيع فلم يعد إلى بيته في ذلك اليوم إلا بعد أن تأكد من أنني نمت في غرفتي وأنه لن يراني إلا في الصباح... نعم، لقد غضبتُ على الوالد، لكنني أشفقت عليه أيضاً لأنه تصرف حسب التقاليد التي تربى علها، ومن أجل الحفاظ على مصلحة عائلة وهب حياته لحمايتها.  

أذكر بعد سنوات وسنوات أثناء دراستي للدكتوراه في جامعة هيوستن في أمريكا أن أستاذ مادة التنمية الاقتصادية، الدكتور توماس جريجوري أورد في معرض حديثه مثالاً على تخلف شعوب العالم الثالث، مشيراً إلى أن اللاجئين الفلسطينيين لا يدركون أهمية تسجيل موتاهم لدى السلطات المعنية. وهنا اكتشفت سبباً جديداً من أسباب فشل علماء الاقتصاد الأوروبيين والأمريكيين في إدراك معنى وأسباب تخلف شعوب العالم الثالث، وعجز علماء الغرب عامة عن وضع نظرية تنموية تعالج معضلة التخلف وتساعد فقراء العالم على انتشال أنفسهم من براثن الجوع والبؤس، وهو فشل ما يزال قائما حتى يومنا هذا. ابتسمت حين سمعت ما قاله أستاذي وصديقي بسخرية، ما دفعه إلى سؤالي عن سبب ما بدا مني، وهنا شرحت له أن عدم قيام اللاجئين بإعلام السلطات المعنية بوفاة ذويهم لا يعود إلى جهلهم أو عدم وعيهم بأهمية تسجيل موتاهم، بل لحاجتهم للمعونات الغذائية التي فرضت عليهم وضع المصلحة العائلية فوق المصلحة العامة. إن تسجيل موتاهم من شأنه أن يتسبب في خفض عدد الأشخاص المسجلين على بطاقة التموين، وبالتالي خفض المخصصات الشهرية من المعونات الغذائية، فيما تحتم عملية الحفاظ على المصلحة الخاصة عدم القيام بالإعلام عن الموتى حتى تبقى المعونات الغذائية على حالها. إن هدف غالبية اللاجئين الرئيسي في تلك الأيام كان البقاء، وهذا حتم عليهم الحصول على أكبر قدر ممكن من المعونات الغذائية، وليس القيام بأي عمل من شأنه التسبب في تناقصها.

 


Deprecated: Directive 'allow_url_include' is deprecated in Unknown on line 0