يوميات كاتب في الأرشيف قصة بقلم ناصر خليفة

يوميات كاتب في الأرشيف قصة بقلم ناصر خليفة
الكاتب: 

الكاتب ناصر خليفة

كاتب حر
الاثنين, نوفمبر 1, 2021 - 05

لوحة (١)
 •• مع بزوغ شمس هذا اليوم الأول من شهر نوفمبر البارد، ومع أصوات باعة الخضار المتجولين وصوت "التكاتك" وأنابيب الغاز و"باصات" المدارس وصوت المترو القريب.. تسرب شعاع الشمس الدافئ من خلال نافذة غرفة "أحمد فاروق" بالطابق الأرضي؛ ليكشف شعاعها ما أخفته ظلمة الغرفة من فوضى عارمة وكركبة يهرب منها أي فأر عاقل وابن أصول يحفظ كرامته.. سجل ضوء الشمس أول ما وقعت عليه عين شعاعها؛ دولاب أبوابه مفسخة وكأنها خُشبٌ مسَّندة ، مفصلاته تعادي بعضها بعضًا، حائط يستغيث من التصدع والشروخ.. ثم تسلل نفس الشعاع عن كومة ثياب أحمد وما تناثر وانزوى في زوايا الغرفة فلم يلحقه شعاع الشمس.. وما خفي كان أكثر فوضى وأعظم إهمالًا..! 
•• أحمد فاروق شاب ثلاثيني يسكن شقة أرضية متناهية الصغر -غرفة بمنافعها- كانت مؤجرة لتاجر خردة يخزن فيها بضاعته.. تركها التاجر بعد أن طلبت صاحبة العمارة "الحاجة سعاد البربري" زيادة في الإيجار، ولما رفض أخرجته وأجرتها للشاب أحمد فاروق.. كان ذلك من قرابة ثلاثة أشهر عندما انتقل أحمد فاروق من أرشيف محكمة في الصعيد إلى أرشيف محكمة بالقاهرة.. امتعض أحمد كثيرًا لقرار النقل الذي اعتقد أنه قرار متعسف فكان مدهوشًا غاضبًا؛ لأنه لم يعلم له سببًا حتى الآن.. 
•• استفاق أحمد من نومه، فتح عينيه وكعادته يحدق إلى سقف الغرفة الذي يتدلى منه سلك كهرباء تكسوه مخلفات الذباب والناموس، وفي نهايته لمبة ذات ضوء أصفر باهت، وعليها مثل ما على السلك. يحدق أحمد ويطيل النظر إلى السقف، وكأنه يقرأ حروفًا لكلمات مبعثرة وأرقامًا تتقاطع مع بعضها، يتمتم بكلمات كأنه يفك رموزها ويفسرها مع نفسه، تبدو على ملامح وجهه ابتسامة تخفي ما به من تخيلات وأوهام.. يتصور أن تلك الأرقام هي أرقام حسابات بنكية ورموز لخزينة أمانات بالبنك محفوظ بها ذهب ودولارات واشياء ثمينة! -إنها أحلام اليقظة الصباحية-! مشهد يتكرر كل صباح منذ أن أقام بهذه الغرفة الذي كان يصفها بالكئيبة كلما هاتفه أحد أصدقائه.. وما كانت تلك النقوش السريالية على سقف الغرفة إلا تشققات وتقشعات من أثر ترشح وتسرب قديم من الشقة التي تعلو غرفته، بسبب مشكلات سباكة قديمة وحديثة.. 
•• تذكر أحمد موعد العمل فترك السقف بما فيه ونهض يدفع فراشه وأوهامه بعيدًا.. أزاح ما تبقى عليه من أطراف البطانية التي كان يتصارع معها طيلة ليلته، فهو كثير الرفس بساقيه الطويلتين فلا يهنأ بدفء البطانية التي كلما استيقظ وجدها تئن من آثار رفس القدمين وعصرتها؛ بسبب تقلبات جسد أحمد ذات اليمين وذات الشمال والسقف باسط تشققاته من فوقهما، يرسل كميات من ذرات الأتربة.
•• نهض أحمد مهرولًا إلى الحمام.. فتح الحنفية النحاسية القديمة فجادت عليه بقطرات قليلة من الماء، لتنقطع تمامًا ولا تستجيب لاستغاثات أحمد الذي صاح غاضبًا منفعلًا! وانطلق يسب ويلعن مصلحة المياة وكل المصالح.. نفس السيناريو المتكرر يوميًّا مع بكابورت اللعنات الأحمدية باللهجة الصعيدية.. لكن لا حياة لمن يلعن ولا أمل في الإصلاح؛ فصاحبة البيت لا تساعد في الإصلاح ما استطاعت.. وهي تستطيع..!
•• تلفت حوله فوقعت عيناه على "قارورة" تحتوي على قليل من الماء، كان قد احتفظ به من يومين تحسبًا لما قد يحدث! وهو ما يحدث دائمًا..! بالكاد أدت حفنة الماء نصف الغرض المطلوب.. عاد إلى الغرفة غاضبًا أغلق النافذة "تمامًا" في وجه الشمس الكاشفة.. أحكم غلق النافذة خوفًا من لصوص الحارة وبلطجيها! -مع العلم أنه لا يوجد بغرفته ما يُخشى عليه من السرقة أو حتى الاستعمال- انتشل البنطلون والقميص من بين كومة ملابس، ارتدى ثيابه ولملم أشياءه: محفظته، ومفاتيحه وكمامته، وقلمه..
لوحة (٢)
•• خرج إلى الشارع عابسًا واجمًا، متوجهًا إلى الميدان ليبتاع وجبة الفطار؛ طعمية من عربة "عم سيد" تقف باستمرار أمام "مقهى العمدة" على ناصية الميدان.. ألقى تحية الصباح على النادل قدري والحاضرين. انتظر "قدري" دقيقتين ثم أحضر طلبات الأستاذ أحمد: الشاي والشيشة.. مرت خمس دقائق اقترب قدري من أحمد أومأ بظهره راكعًا، وهمس يقول: 
- الباشا سأل عنك امبارح! وبيقولك عملت إيه؟!
 تظاهر أحمد بالهدوء والثقة والثبات، وهو يحدق إلى وجه قدري -الذي كان ما زال قريبًا منه-، وقال بصوت حاد لكنه خافت: 
- شوف يا قدري قل للباشا النهارده الساعة خمسة يقابلني في محطة مترو "المرج القديم" كل حاجة تمام.. 
ابتسم قدري فرحًا، وهو يقول: 
- طيب يارب متنسانيش. وأتبع: 
- أنا لحد دلوقت معرفش الموضوع إيه؟! بس حاسس إن الموضوع فيه لقمة بسبوسة حلوة. وأردف: 
- إنت سيد العارفين يا أحمد بيه وعارف ظروف أخوك قدري عايش في الحضيض .! 
 ابتسم أحمد فاروق مستهجنًا، وقال: 
- خلاص ياسطا اطلع من نفوخي وادعيلي ربنا يسترها ويعديها على خير.. وأكمل: - ولازم تعرف إن الموضوع مش زي ما إنته متصور.. الموضوع فيه مخاطرة ومجازفة لو مشي تمام وفله ويبقى قبينا كلنا على وش الدنيا.. واستطرد: 
- ربنا يسهل والحكاية تمشي على الأقل أرتاح من الوحل اللي أنا عايش فيه! -وأشار إلى محل سكنه- وأتبع يقول: 
- ولو انكشفت يا فالح يابن الفالحة هروح ورا الشمس اللي طالعة دي!
 صمت قدري يفكر.. لم يقطعه سوى صوت أحمد فاروق وهو يسحبه من ياقة قميصه الأبيض المطبوع عليه كلمة "قهوة العمدة"، ثم جذبه وهو يقول: 
- بس خلي بالك لو نطقت يا قدري بكلمة رقبتك هتطير! احنا خليناك وسيط علشان التليفونات المتراقبة.. فاهم والا لسه غبي؟! 
ارتجف قدري وتسمر مكانه شاخصًا عينيه شاحب الوجه، وقال: 
- يعني إيه يا عم أحمد؟! (قالها قدري مذعورًا)! وأكمل: 
- أنا غلبان وصاحب عيال.. إذا كان الموضوع كبير وفي خطورة بعدني عنه الله لا يسيئك ! قالها قدري وانصرف  نحو زبون استدعاه لطلب مشروب، وهو يتمتم مع نفسه مرتعشا: استر يا رب استر يارب ..
مرت دقائق قليلة على صمت أحمد فاروق حتى وصل أتوبيس "خط العباسية" توقف في الجهة المقابلة للمقهى، لاحظه أحمد فنهض وأسرع ليلحقه، استقل الاتوبيس متجها إلى مكان عمله  في أرشيف المحكمة .
تمت هنا.


Deprecated: Directive 'allow_url_include' is deprecated in Unknown on line 0