الجيتو الثقافي

مقالات عامة
البروفيسور محمد ربيع يكتب : الجيتو الثقافي
الكاتب: 

الدكتور محمد ربيع

كاتب وشاعرومفكر - واشنطن دي سي
السبت, مارس 11, 2023 - 00

جاء الإنترنت قبل نحو 25 سنة ليخلق وسيلة تواصل آنية بين الناس بغض النظر عن هواياتهم وأماكن تواجدهم الجغرافية، ما جعل بإمكان المتزمتين دينيا والمحافظين ثقافيا تطوير جيتووات ثقافية يعيشون فيها على الرغم من تشتتهم في كافة أرجاء المعمورة. ومع أن أعضاء هذا الجيتو قلما عرفوا بعضهم بعضا، إلا أنهم يعرفون جيدا ما ينتجه الجيتو الذي ينتمون إليه من أفكار وإشاعات وتخيلات، وما يروج له من سلوكيات وقيم ونظريات تآمرية، غالبا ما تكون بعيدة عن واقع حياتهم وظروف المجتمع الذي يعيشون فيه وينتمون إليه. الأمر الذي مكن سكان كل جيتو من تبادل المعلومات ونشر الإشاعات وتكريس ثقافة مُختلفة، ولكن مُتخلِّفة عن محيطها، تتخذ مواقفها بناء على نظرة ضيقة، ما يجعلها تبتعد عن العقلانية وتفرض أفكارها وطريقة تفكيرها على أتباعها. 
إن غالبية المهاجرين من العالم الثالث إلى الغرب، خاصة المحافطين ثقافيا والمتزمتين دينيا، غالبا ما يتخلفون ثقافيا وعلميا، ليس فقط عن المجتمعات التي يعيشون فيها اليوم، وإنما أيضا عن المجتمعات التي هاجروا منها. إذ فيما تتطور تلك المجتمعات ببطء، يعيش المغتربون في المهجر في جتووات ثقافية اجتماعية منغلقة على نفسها، معزولة عن العالم الذي يحيط بها، حيث تقوم هناك بتدوير قيم ومواقف قديمة تجاوزها الزمن. 
بعد وصول القنوات الفضائية لأوروبا وأمريكا وغيرها من بلاد المهجر، أصبح معظم المغتربين لا ينقطعون عن أوطانهم، إذ يقضي معظمهم ساعات يوميا جالسين أمام أجهزة تلفزيون يشاهدون ما يشاهده أقربائهم وأصدقائهم في الوطن من برامج ومسلسلات، يتعرضون خلالها لنفس عمليات تزييف الوعي. ثم يقومون باستخدام برامج سكايب وواتسأب للاتصال مجانا بأقاربهم وتبادل الآراء معهم حول ما شاهدوا من مسلسلات، وما سمعوا من إشاعات. وهذا يجعلهم يشعرون بأنهم يعيشون فعليا في الوطن، لكنهم يعملون في المهجر، وأن عليهم استغلال فرصة وجودهم في المهجر للحصول على أكبر قدر من المال، أحيانا بوسائل غير أخلاقية وغير شرعية.
قمت باختراع مفهوم "الجيتو الثقافي" Cultural Ghetto للتعبير عن هذه الظاهرة الغريبة التي تبلورت بعد ظهور الإنترنيت. الجيتو الذي عاش فيه اليهود والغجر وغيرهم من أقليات مارس الأوروبيون التفرقة العنصرية ضدها قبل قرون، ويعيش فيه المسحوقون من فقراء العالم اليوم رغم إرادتهم في أمريكا وغيرها من بلاد العالم هو عبارة عن مكان معزول ومنبوذ يوصف بالفقر والبؤس والتعاسة. أما الجيتو الثقافي فهو ليس مكانا جغرافيا محددا بل فضاء مفتوحا يعيش فيه المنتمون إليه ذهنيا وعقائديا بمحض إرادتهم بغض النظر عن أماكن تواجدهم وأحوالهم المعيشية، يتبادلون معلومات مستهلكة وإشاعات مختلقة، مبنية غالبا على أفكار غير عقلانية تسهم في تزييف وعيهم وعزلهم عن محيطهم، وتبرر لهم اتخاذ مواقف سلبية وأحيانا عدائية من الغير وممن يخالفهم الرأي من أبناء وطنهم. وبعد انتشار موجة التطرف الديني كتيار ثقافي، فإن الجيتووات الثقافية أخذت تنتشر في مختلف أرجاء المعمورة، وتدفع المنتمين إليها إلى تحدي المجتمعات التي يعيشون فيها، والقيام بتصرفات غريبة عن عادات وتقاليد تلك البلاد مثل قيام الرجال بلبس الدشداشة في الشوارع العامة والأسواق التجارية، وتربية الذقون الطويلة، وتغطية وجوه النساء بالبراقع. وهذه تصرفات تعمل على تكريس عزلتهم وتخلفهم من النواحي الثقافية والعلمية، وتسهم في تعميق ردود الفعل المعادية لهم في الغرب والشرق، فيما تقوم بتنمية إحساس لديهم بأنهم ضحايا عالم يكن لهم الحقد والكراهية، ما يدفعهم إلى المزيد من التطرف والتعصب، ورفض كل فكر مخالف لما يؤمنون به من معتقدات ويمارسونه من طقوس وعادات. 
إن تمسك بعض الناس بثقافاتهم التقليدية، وحملها معهم أينما ذهبوا، والعيش في جيتووات ثقافية لا يقتصر على شعب دون غيره، إذ يشمل المسلمين والمسيحيين واليهود والعرب والصينيين والفيتناميين والهنود وغيرهم. وهذا جعل نظرة الشك والريبة ومشاعر الحسد والغيرة التي تسود في بلادهم الأصلية تشكل مواقفهم في المهجر، وتوجه سلوكياتهم تجاه بعضهم البعض وغيرهم من الناس؛ الأمر الذي يحد من قدراتهم على القيام بعمل جماعي ذا طابع اقتصادي أو اجتماعي أو سياسي هادف. 
دعاني السيد لاري كولر لحضور حفلة زفافه إلى فتاة يهودية من أصول سورية. لاري كولر صحفي أمريكي من دعاة السلام وتعايش الفلسطينين واليهود في فلسطين. أقيمت حفلة الزفاف في مدينة صغيرة تقع على البحر في ولاية نيوجيرزي القريبة من نيويورك. وحين دخلت مع ابنتي إلى قاعة الاحتفال اكتشفنا أن هناك قاعتين، إحداها لليهود من أصول سورية، أي لأهل وأصدقاء العروس، والثانية لليهود المنحدرين من أصول أوروبية شرقية، أي لأهل وأصدقاء العريس، وأن الاختلاط بين الفريقين كان معدوما. لذلك قام حاخامان باتمام مراسم عقد الزواج في حفلتين منفصلتين، إحداها على طريقة يهود أوروبا الشرقية، والثانية على طريقة يهود سوريا، وأثناء القيام بتلك المراسم، لم يشارك السوريون الأوروبيين حفلتهم، كما لم يشارك الأوروبيون السوريين حفلتهم. وحين بدأت الموسيقى والأغاني، كانت الموسيقى في الجانب الأوروبي أمريكية وأوروبية شرقية، فيما كانت الموسيقى والأغاني في الجانب السوري عربية بالكامل، مثلها مثل الطعام واللغة باللهجة السورية، حتى الفرقة الموسيقية كانت بقيادة شاب أمريكي فلسطيني. 
وحين اكتشف اليهود السوريون أنني فلسطيني لم يتركوني أذهب إلى الناحية الثانية، إذ قاموا باحتكاري وابنتي للحديث عن ذكرياتهم في سوريا وحنينهم لوطن اغتربوا عنه ويشتاقون إليه. ومن الأشياء التي أخبروني بها في تلك الليلة أنهم جميعا يعملون في تجارة القماش والملابس التي يستوردونها من الخارج، وأن بيوتهم وأماكن عملهم في مدينة نيويورك، لكنهم اشتروا شققا بالقرب من بعضها بعضا في المدينة الساحلية التي أقيمت فيها حفلة الزفاف. ومن أجل الحفاظ على تماسكهم، وتقوية الروابط فيما بينهم، وتربية أبنائهم وبناتهم على قيم وتقاليد الثقافة العربية التي نشأوا عليها، قرروا أن يقضوا شهرا كل عام في تلك المدينة على الشاطئ، يعشون فيها أيام زمان كعائلة واحدة، يسترجعون ذكريات الماضي، ويبتعدون عن جو نيويورك القاتم وحياتها القاسية.
لكن هل بإمكان الجيل الثاني أو الثالث أن يكرر حياة الجيتو هذه؟ مع أن هذا ممكن ومتاح، إلا أنني لا أعتقد أن الأجيال القادمة سوف تتمسك بتقاليد الجيتو الثقافي لأن التمسك بثقافات قديمة يعني الانعزال عن المجتمع الأكبر الذي يسعون من خلال التعليم والعمل إلى الانخراط فيه والتكامل معه. واليوم يأتي التلفون الذكي ليخلق جيتووات ثقافية لا تعد ولا تحصى، يحتجز فيها ما لا يقل عن مليار أسير، فيما يقوم بتشتيت ولاءات هؤلاء الأسرى وتشويش عقولهم وعزلهم عن غيرهم من البشر، والسيطرة عليهم وتوجيه مواقفهم وقراراتهم. وفي ضوء تشويش العقول وتشتت الولاءات واتساع نطاق عمليات العزل يتم  تقويض قدرة الشعوب على تنظيم أنفسها، والثورة على الظلم الذي يحيق بها، فيما يعطى الأثرياء والأقوياء فرصة التصرف على هواهم وخدمة مصالحهم مع عدم الخوف من قيام الشعوب بالثورة ضدهم؛ وهذا من شأنه توسعة دائرة الفقر والفساد في غالبية دول العالم، وإضعاف الأمل في حدوث تغيير يحرر أسرى الجيتووات الثقافية التي تعاني أغلبية سكانها من الفقر والكبت، ويعيد لهم إنسانيتهم. 
 


Deprecated: Directive 'allow_url_include' is deprecated in Unknown on line 0