العلمانية والدين

مقالات عامة
الدكتور محمد ربيع يكتب : العلمانية والدين
الكاتب: 

الدكتور محمد ربيع

كاتب وشاعرومفكر - واشنطن دي سي
الثلاثاء, مارس 28, 2023 - 05

العلمانية فكرة إنسانية تسعى إلى "تحرير الإنسان من السلطة الدينية وتعاليم المؤسسة الدينية، ومن قيام الدولة بفرض رؤية دينية على المواطنين، مع اتخاذ موقف حيادي من الدين نفسه". أما الدولة العلمانية فهي تلك الدولة التي لا تنحاز لفئة دينية أو غير دينية، فيما تأخذ موقفاً محايداً من مختلف الأديان والشعائر الدينية، وتُعامل كافة المواطنين على أساس المساواة في الحقوق والواجبات، انطلاقا من مبدأ المساواة بين الناس بغض النظر عما يؤمنون به من عقائد. وتشكل مقولة المسيح لليهود  الذين سألوه عن كيفية التعامل مع القيصر الروماني: "أعط ما لقيصر لقيصر، وما لله لله"، أساس الفكرة العلمانية التي قامت بإرساء مبدأ فصل أمور الدين عن أمور الحكم، لأن لكل أمر مجاله الذي يختلف عن الآخر. ومع وصول الديمقراطية لأوروبا في القرن الثامن عشر أصبح شرع الحاكم حاضعا لشرع الأغلبية الشعبية؛ إذ نصت مختلف الدساتير على أن الشعب هو مصدر السلطات جميعا.
من ناحية ثانية، تقول اليهودية بعدم جواز إقامة دولة لهم، وأن على اليهود أن يعيشوا في ظل دولة أخرى، أي دولة غير دينية، وذلك حتى عودة المنقذ الذي سيقيم دولة تجبر جميع البشر على اعتناق دينها والإله الذي تؤمن به، وهو إله قال مرارا وتكرارا "شعبي بني إسرائيل" ما يجعله إلها قبليا منحازا لقبيلته، ولا يعير أهمية لغيرهم من البشر. كما تقول اليهودية إن إلههم سوف يقوم بإبادة من يخالف أوامره ويمتنع عن الإيمان باليهودية. 
ولقد جاءت رسالة الإسلام مشابهة لرسالة المسيحية والعلمانية، إذ جاء في الآية 38 من سورة الشورى القول: "وأمرهم شورى بينهم". كما جاء حديثان يُنسبان للرسول يقول أحدهما: "أنتمْ أعلمَ بأمورِ دُنياكمْ"، ويقول الثاني"إنما أنا بَشر مِثلُكمْ، إذا أمَرتُكمْ بشيءٍ من أمْرِ دينَكُمْ فخُذُوا به، وإذا أمرتُكمْ بشيءٍ من أمْورِ دُنياكُمْ فإنما أنا بشر". ومن خلال هذين الحديثين، يعترف الرسول أولاً بأن الناس أعلم بأمور دنياهم من أي شخص آخر، حتى وإن كان نبياً، ويُوضح ثانياً مبرر فصل أمور الدين عن أمور الحياة على أساس الاختصاص والمعرفة، ويعلن بشكل غير مباشر ثالثاً أن الشعب هو مصدر السلطات من خلال قوله (أنتم أعلم بأمور دنياكم).
لذلك يمكن القول بلا تحفظ أن فصل أمور الدين عن أمور الدنيا هو جزء من رسالة اليهودية والمسيحية والإسلام، وأن مبدأ فصل الدين عن الدولة حظي بتأييد رجال الدين الذين يتوخون إصلاح المجتمع وصلاح الأمة، وينادون بتحرير الإنسان من الجهل والفقر والاستبداد. من ناحية ثانية، قال ابن رشد إن الدين والفلسفة طريقان رئيسيان للوصول إلى الحقيقة، لكنهما طريقان مختلفان لا يجوز الخلط بينهما. الطريق الأول يقود إلى التعرف إلى الحقائق الدينية وهذا أمر من اختصاص رجال الدين، فيما يقود الثاني إلى اكتشاف الحقائق العلمية والمعيشية وهذا من اختصاص الفلاسفة. كما قال أيضا "إن العقل يُعدُّ بديلاً للوحي، وأن الفيلسوف يستطيع باستخدام عقله أن يتوصل إلى فكرة الله وحقيقة وجوده من دون حاجة إلى الوحي، لكن العوام ( الناس العاديين) ليس بإمكانهم التوصل إلى الحقيقة الإلهية بسبب محدودية قدراتهم الفكرية إلا من خلال الوحي، ما يجعلهم بحاجة للوحي، ومن ثم لرجال دين". ويؤكد ابن رشد على ما توصل إليه من آراء بالقول، "الله لا يمكن أن يعطينا عقولاً ويعطينا شرائع مخالفة لها"، ما جعله يحث الناس على دراسة الفلسفة واستخدام العقل والرجوع إلى العلم، مؤكداً أن التفكير واستخدام العقل ليس عملاً اختيارياً، بل واجباً على كل من يستطيع ممارسته من الناس.
حين يكون إنسان عضوا في طائفة دينية منغلقة على نفسها، أو في تنظيم أيديولوجي هرمي، فإنه يُحرم من حرية التحدث باسمه والتعبير عن رأيه، لأن المفردات اللغوية التي يكون عليه أن يستخدمها، والمعتقدات التي يلتزم بها تُصادر حقه في حرية التفكير والتعبير. إن منظومة العقائد والقيم والطقوس التي تُفرض على المؤمن المنتمي لجماعة عقائدية لا تسلب حريته في التعبير عن رأيه فحسب، وإنما تسلب أيضاً قدرته على فهم العقيدة كما يراها، وتقييم قدرتها على التجاوب مع حاجاته النفسية والمعيشية.
من ناحية ثانية، يقول معظم المفكرين والمثقفين في الغرب إن فصل الدين عن الدولة قام بحماية المؤسسة الدينية، وصيانة المقدسات وبيوت العبادة من سطوة الدولة وتدخلها في الشؤون الدينية. ويقول آخرون إن عملية الفصل مهدت الطريق لشيوع الحرية الفردية وبلورة مبدأ المواطنة الذي يقوم على وجود عقد اجتماعي بين نظام الحكم والمواطنين يحدد مسئوليات كل طرف وحقوقه. إن من يدرس حال التشريع في دول الغرب الديمقراطية يكتشف أن المؤسسة الدينية تتمتع بالحرية التامة في مجال عملها، وأن الدولة العلمانية لا تتدخل في شؤونها، وإنما تقوم بتأمين الحرية لها وحمايتها، وضمان حق رجالها، إسوة بغيرهم من مواطنين، في التعبير عن آرائهم والترويج لأفكارهم. 
إلى جانب ذلك، يرفض العلمانيون الادعاء بأن الله يتدخل في أمور الناس والحياة والكون، وذلك انطلاقا من فهم علمي لقوانين الطبيعة التي تتحكم في حركة الأرض والليل والنهار والشمس والقمر وغيرها من كواكب. لذلك تقول العلمانية إنه من غير المعقول أن يغير الله رأيه، أو أن يُعدل القوانين التي وضعها منذ الأزل تجاوباً مع توسلات مؤمن سواء كان فقيرا أو ثريا، ضعيفا أو قويا، لأن التدخل يؤدي إلى الإخلال بالتوازن القائم في الكون. ويؤكد القرآن هذا الأمر في الآية التي تقول: "وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ" (المؤمنون 71) لذلك تصر العلمانية على فصل أمور الدين عن أمور الحياة أولاً، وتحرير الإنسان من هيمنة المؤسسة الدينية ورجالها وبطش الدولة وجبروتها ثانياً، واحترام إنسانية الإنسان وتنمية قدراته على التفكير والتأمل ثالثاً. وكما يشير تاريخ أوروبا، لم تستطع شعوب تلك القارة أن تتحرر من الظلم والعبودية ونظام الإقطاع الذي رعته نظم الحكم المستبدة وباركته المؤسسة الدبنية إلا بعد فصل الدين عن الدولة.
يقول الكثير من الفقهاء وأئمة المساجد أن العلمانية حركة تقوم على الإلحاد والعداء للدين، ومع وجود فروق بين التأويلات الفقهية والفكر العلماني، إلا أن التناقض بين الإسلام والعلمانية كمبادئ في الحكم والنظرة إلى الإنسان لا وجود له تقريباً. فالعلمانية فلسفة اجتماعية تحررية تدعو إلى فصل الدين عن الدولة لأنها ترى أن الإنسان قادر على إدارة شؤون حياته، والتعامل مع ما قد يعترض طريقه من تحديات، لذلك من حقه أن يقوم بإدارة حياته بنفسه. ولقد جاء كتاب "الإسلام وأصول الحكم" للشيخ علي عبد الرازق الذي نُشر في عام 1925 ليؤكد أن القرآن ينص على فصل الدين عن الدولة. قال علي عبد الرازق، إن الرجوع إلى القرآن ودراسة نصوصه دراسة مستفيضة تُبين "أن الإسلام رسالة لا حكم، ودين لا دولة". "إذا أردنا أن نستنبط شيئاً من نظامه صلى الله عليه وسلّم في القضاء نجد أنّ استنباط شيء من ذلك غير يسير، بل غير ممكن، لأنّ الذي نُقل إلينا من أحاديث القضاء النبوي لا يبلغ أن يعطيك صورة بيّنة لذلك القضاء ولا لما كان له من نظام، إن كان له نظام.” ويلخص عبد الرازق موقفه من فصل الدين عن الدولة في قوله: كانت “ولاية رسول الله على قومه ولاية روحيّة، منشؤها إيمان القلب، وخضوعه خضوعاً صادقاً تامّاً يتّبعه خضوع الجسم، وولاية الحاكم ولاية ماديّة، تعتمد إخضاع الجسم من غير أن يكون لها بالقلوب اتصال. تلك ولاية هداية إلى الله وإرشاد إليه، وهذه ولاية تدبير لمصالح الحياة وعمار الأرض. تلك للدّين، وهذه للدنيا." (محمد فطيش: تلخيص كتاب الإسلام وأصول الحكم، فكر بلا قيود) 
إضافة إلى أقوال الشيخ عبد الرازق، يقول الشيخ محمد متولي الشعراوي إن الإسلام يُفرق بين حركة الحياة، أي التجربة العملية والعلمية والمادية، وحركة الأهواء الإنسانية، وأن الدين جاء لينظم حركة الأهواء وليس حركة الحياة. لذلك يتدخل الله من خلال الدين لتوجيه أهواء الناس بعيداً عن حركة الحياة التي تركها لنشاطات العقول وطموحات النفس البشرية التي تشمل النشاطات المادية والعلمية والتجريبية، لأن السماء والوحي لا يتدخلان في النشاط التجريبي. ويضيف الشعراوي القول بإن الله يريد من البشر أن يتأملوا في الكون وقوانيه وعملية الخلق كي يستنبطوا منها ما يفيدهم ويسعدهم في الحياة. وحتى تستقيم أمور الحياة والدنيا، كان لا بد من عزل أهواء البشر والأحكام التي تُنظمها عن نشاطات العقل البشري ومجالاته. أما تدخل الدين في الابتكارات والمنتجات الصناعية فيقتصر على توجيه تلك المبتكرات لخدمة البشرية وعمل الخير وإسعاد الناس، وليس لاستغلالهم وتدمير حياتهم. ولذلك قال الشعراوي أيضا: "أتمنى أن يصل الدين إلى أهل السياسة وأن لا يصل أهل الدين  إلى السياسة."


Deprecated: Directive 'allow_url_include' is deprecated in Unknown on line 0