الإستغراب

مقالات عامة
الكاتب: 

الدكتور محمد ربيع

كاتب وشاعرومفكر - واشنطن دي سي
الاثنين, سبتمبر 14, 2020 - 06

في عام 1983، وفيما كنا نتداول في آخر الاستعدادات لمؤتمر عربي هدفه استعراض الحال العربي، وتأسيس أول جمعية لحقوق الإنسان في تاريخ العرب، عرض علينا زميل ورقة لم نكن قد كلفناه بكتابتها، لكنني أعتقد أن الدكتور هشام شرابي كلفه بذلك، لان الزميل الذي كتبها كان بمثابة صبي يعمل لدى هشام. وفيما وقف زملائي الثلاثة يتحدثون قرأت الورقة بسرعة لأجدها تسرح وتمرح في مديح الماركسية وتستخدم نظريات اجتماعية أمريكية لتصف حال العرب والطبقية في بلادهم وتحدد المعيقات التي تحول دون تحررهم وتقدمهم. كانت تلك الورقة بمثابة محاولة لتوريط كافة المدعوين للمشاركة في المؤتمر من مفكرين ومثقفين عرب في اتخاذ موقف ايديولوجي في صورة بيان يصدر عنهم في ختام المؤتمر. وهنا، ودون تفكير مسبق، صرخت في وجه الزميل الذي أعد الورقة قائلا: هذا كلام فارغ وصبياني، إننا لم نكلفك بكتابة هذه الورقة أو غيرها، ولذلك فإن مكان ورقتك هذه هو سلة المهملات.

كانت اللجنة تضم أربعة أعضاء: هشام شرابي، حليم بركات، إبراهيم إبراهيم، وكاتب هذه السطور، فيما كنا جميعا أساتذة في جامعة جورجتاون، فيما كنت المسؤول عن المؤتمر، حيث قمت بالتراسل مع كافة المدعويين وطمأنتهم بأن النقاش سيكون مفتوحا والحرية مضمونة للجميع، وأنه ليس لدينا أجندة خاصة، وأن همنا الأول والأخير هو خير الأمة العربية وصيانة العقل العربي من الهلوسة والخرفنة. الأمر الذي يعني أن تقديم مشروع بيان هو محاولة لتوريط المجتمعين بالموافقة على ورقة معدة سلفا وقبل تداول الأفكار، ما يعني تضليل المدعوين وإهانتهم. فورا ناولت الورقة لصاحبها وأعلنت انتهاء الاجتماع واللقاء في اليوم التالي في المطار كما كان محددا والسفر سويا إلى تونس حيث انعقد المؤتمر في مدينة الحمامات على شاطئ البحر الأبيض المتوسط.  

وفي الطريق إلى البيت اخترعت مصطلح "المستغربين" العرب، وذلك إسوة بمصطلح "المستشرقين" الغربيون. المستشرق هو شخص يهتم بالشرق العربي والإسلامي، لكن معلوماته تكون في العادة مستمدة من مراجع غير موثوقة وأفكاره متأثرة بحكايات شهرزاد وألف ليلة وليلة، وليالي هارون الرشيد وثقافة الحريم، ما يجعله يحكم على العرب عامة والعقل العربي خاصة بالبعد عن التفكير العلمي والمنطقي، والميل إلى العاطفة؛ الأمر الذي جعل الاستشراق عامة يسيء لصورة العرب وسمعتهم في الغرب، ويتسبب في رسم سياسات اتجه معظمها نحو معاداة العرب بدل التعاطف معهم والنظر إليهم بوصفهم عملاء محتملين، وفرصة ثمينة يمكن استغلالها بسهولة. أما المستغرب العربي فهو شخص مفتون بانجازات الغرب العلمية بناء على قيامه بدراسة النظريات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تبلورت في الغرب، لكن معرفته بثقافة الغرب تنبع من انطباعات عامة ومواقف شعبية ونخبوية لا تعكس واقع حياة تلك الشعوب ولا أهداف النخب الحاكمة فيها. ولما كان المستغرب هذا لا يعرف سوى القليل عن ظروف تطور العلوم والثقافات في الغرب، فإنه حين يستخدم النظريات التي تطورت في الغرب لا يأخذ في الحسبان الظروف التي أحاطت بحياة الناس وأثرت بصورة مباشرة في تشكيل تلك النظريات، خاصة الفرضيات التي قامت عليها. 

ولما كان واقع الحياة العربي يختلف كثيرا وأحيانا جذريا عن واقع حياة معظم مجتمعات الغرب، فإن النظريات الغربية لا تستطيع تحليل الواقع العربي ولا التعرف على أسباب تخلف العرب ولا تحديد ما يحتاجون إليه من أدوات عمل ومؤسسات كي ينهضوا من كبوتهم ويتقدموا. الأمر الذي جعل المثقف العربي هذا يقوم بمحاولة تفصيل المجتمع العربي وواقع حياته، الذي لا يمكن تفصيله، كي يستخدم نظرياته بكفاءة في تحليل شخصية الإنسان العربي ومجتمعه وواقع حياته، وهذا شخص وواقع ومجتمع لا وجود لها إلا في خيال مستغرب عربي مفتون بإنجازات الغرب العلمية والتكنولوجية. وعلى سبيل المثال، وبسبب اختلاف ظروف حياة وواقع حياة وتجربة العرب عن الغرب، فإن كافة نظريات التنمية التي تطورت منذ بدء التفكير في التنمية في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية واستقلال عشرات الشعوب العربية والآسيوية والأفريقية واللاتينية على السواء، فشلت فشلا ذريعا في تحقيق التنمية في أي دولة خارج الغرب. كما أن البنك الدولي الذي تأسس لمساعدة الدول على النمو الاقتصادي فشل في مساعدة دولة واحدة على النهوض والنمو بعد نحو 75 سنة وإنفاق مئات البلايين من الدولارات. الأمر الذي يعني أن أي نظرية يتم تطويرها لتحقيق نهضة عربية لا بد وأن تنبع من بلاد العرب، وتقوم على افتراضات واقعية تعكس ظروف العرب وثقافتهم وتجربتهم الحياتية عبر التاريخ، ودور الاستعمار الغربي في تشكيل تلك التجربة وتشويهها، ونظرة العرب إلى تراثهم وغيرهم من شعوب العالم.