الشتات - الحلقة السادسة " اغتيال الطفولة "

الكاتب: 

الدكتور محمد ربيع

كاتب وشاعرومفكر - واشنطن دي سي
الاثنين, يوليو 12, 2021 - 08

في منتصف عام 1946، قبل بدء عمليات التطهير العرقي التي مارستها المنظمات الإرهابية اليهودية ضد الفلسطينيين بسنة تقريباً، قام عمي جمعة باقناع والدي بشراء سيارة خاصة بحجة أن سعرها كان أقل من قيمتها الحقيقية بكثير، وأن من الممكن بيعها بعد تصليحها ودهنها وتحقيق ربح جيد. وبالفعل قام جمعة أبو ربيع بإصلاح السيارة ودهنها بلون سماوي صاف سرقه من سماء يازور وبحر يافا، وبدأ في استخدامها والتباهي بها متجولاً في أزقة يازور وشوارع يافا. لكن لم تمض عدة أشهر حتى بدأت يازور وغيرها من قرى عربية مجاورة تتعرض لهجمات متقطعة من العصابات الإرهابية اليهودية. طلب والدي من أخيه حينئذٍ بيع السيارة، لأن العائلة قد تحتاج لثمنها إذا ساءت الأمور أكثر وارتفعت أسعار المواد الغذائية. وحيث أن المدارس كانت قد أغلقت أبوابها في حينه بسبب تعرض مدرستنا للخطر وإطلاق نار، فإنني واظبت على مرافقة عمي إلى يافا، حيث كان يذهب يومياً بحثاً عن مشترٍ لتلك السيارة الجميلة. وفي يوم من الأيام، وفيما كنا في طريقنا عائدين من يافا إلى يازور، وجدنا أنفسنا فجأة في وسط معركة حامية، دارت رحاها بين دورية بريطانية وقوات الهاجاناه اليهودية عند مفترق الطريق الذي يربط يافا ويازور وتل أبيب. نزلنا من السيارة مسرعين، أخذني عمي في حضنه، واختبأنا خلف عجلات سيارة نقل كبيرة وجدت نفسها في وسط المعركة مثلنا. استمرت المعركة حوالي ربع ساعة، حيث كان الرصاص يمر من فوق رؤوسنا، يخيفنا ويدخل الرعب إلى قلوبنا. وحين توقفت المعركة، سمعنا صوت سيارة إسعاف عسكرية في طريقها إلى مكان الحادث. وفي الطريق إلى البيت، قال لي عمي، هذه آخر مرة تذهب فيها معي إلى يافا، لو جرى لك أي شيء لقتلني العبد أبو ربيع رمياً بالرصاص. بعد عقود طويلة تذكرت تلك الحادثة المؤلمة حين شاهدت محمد الدرة يموت في حضن والده في قطاع غزة برصاص يهود مجرمين، حاول آباؤهم قتلنا قبل عقود بمثل تلك الطريقة البشعة.

بعد صدور قرار التقسيم في الثاني من نوفمبر تشرين الثاني 1947 أخذت العصابات اليهودية تكثف هجماتها على المدن والقرى الفلسطينية بهدف إرهاب العرب ودفعهم على الرحيل من مدنهم وقراهم. وفي نفس الوقت، بدأت تلك العصابات بالاعتداء على القوات البريطانية بهدف تسريع عملية رحيلها عن فلسطين. إذ مع قيام بريطانيا باتخاذ قرار بالرحيل، إلا أن قواتها انسحبت على مراحل، وذلك لسببين رئيسيين على ما أعتقد: الحيلولة دون وقوع مجازر ضد عرب فلسطين تتحمل بريطانيا مسئوليتها أمام العالم، ما جعل دوريات الجيش البريطاني تقوم بالفعل بمنع عديد المجازر على مدى الستة أشهر اللاحقة. والثاني تسليم المناطق التي خصصها القرار لليهود سلمياً بقدر الإمكان، أي تمكين الحركة الصهيونية من تحقيق أهدافها دون تلويث الضمير البريطاني أكثر مما تلوث. أما قوات الحركة الصهيونية فكانت تخشى وصول الجيوش العربية للدفاع عن فلسطين ما قد يتسبب في حرمانها من تحقيق أهدافها المرحلية وزيادة خسائرها في الأموال والأرواح. لهذا بدأت في مهاجمة الدوريات البريطانية ومضايقتها والحاق الخسائر بها ودفعها إلى الشعور بالحاجة إلى ترك فلسطين وتسليم البلاد لليهود. وبالفعل، تسببت الخسائر البريطانية في قيام الإعلام والرأي العام البريطاني بتوجيه الانتقادات لحكومته ومطالبتها بالانسجاب الفوري.

قبل نهاية عام 1947 كانت يازور قد أصبحت هدفاً رئيسياً لهجمات قوات الهاجاناه وعصابات شتيرن وغيرها، إذ بدأت تلك العصابات بالهجوم على القرية يومياً. وفي أوائل شهر ديسمبر كانون الاول من ذلك العام شنت العصابات الصهيونية هجوماً إرهابياً واسعاً على لأحد مقاهي القرية تسبب في وقوع بعض الضحايا بين قتيل وجريح. ولكن لم تمضِ أيام قليلة حتى كانت يازور قد انتقمت لأبنائها بقتل سبعة جنود من اليهود... كان الجنود قد دأبوا على استفزاز أهالي القرية وإدخال الرعب إلى قلوب أطفالها، حيث كانوا يقومون باختراق القرية في رابعة النهار في سيارة جيب مدججة بالسلاح كل بضعة أيام، وإطلاق النار بكثافة في كل اتجاه بهدف ترهيب الأطفال والكبار وتشجيع الناس على الرحيل من قريتهم. وفي يوم 22 ديسمبر كانون الاول 1947، قام بعض شباب يازور، يساعدهم شاب ألماني متعاطف، بإعداد عبوة ناسفة كبيرة، وضعوها على جانب الطريق الدولي الذي يمر من وسط يازور، وذلك استعداداً لمرور سيارة الجنود اليهود. وحين مرت السيارة بالقرب من العبوة الناسفة، سارع الشباب إلى تفجيرها عن بعد باستخدام سلك ربطوه في بطارية سيارة عادية ومرروه تحت الأرض. وحال وقوع الانفجار، اشتعلت النيران في سيارة الحراس اليهود، وسقطوا جميعاً على الأرض بين قتيل وجريج، وقام من بقي منهم على قيد الحياة بالهرب داخل البيارة المجاورة. وما أن دخلوا البيارة حتى استقبلهم بعض شباب القرية الذين كانوا ينتظرونهم هناك، حيث قاموا بملاحقتهم وقتلهم جميعاً ودفن جثثهم. 

في أعقاب تلك الحادثة، أصدر "إيغال يادين" قائد عمليات منظمة "الهاجاناه" أمراً إلى إيغال ألون قائد وحدة "البالماخ"، أي قوات الكوماندوز، بمعاقبة أهالي يازور بقسوة... كانت وحدة البالماخ عصابة إرهابية خاصة تعمل ضمن إطار قوات الهاجاناه. ومما جاء في ذلك الأمر: "عليك القيام بأسرع وقت ممكن، ومن دون أية أوامر أخرى، بعملية ضد قرية يازور، على أن يكون هدف العملية إزعاج القرية فترة طويلة، وذلك عن طريق القيام بعمليات تسلل إلى داخلها وإحراق عدد من المنازل". وبعد ساعتين من تلقي الأوامر، قامت مجموعة تابعة لـعصابة البالماخ بشن هجوم على سيارة باص بالقرب من مدخل يازور الشرقي تسبب في جرح السائق وعدد آخر من ركابها، كما قامت مجموعة أخرى بالاعتداء على حافلة باص ثانية على مدخل يازور الغربي من جهة يافا. و استمرت هجمات العصابات اليهودية على القرية وعلى السيارات العربية المتجهة منها وإليها عشرين يوماً وليلة على التوالي دون توقف، كما قامت وحدات أخرى بتفجير العبوات الناسفة بالقرب من عديد المنازل في أطراف القرية، تسببت في هروب غالبية سكان المزارع والبساتين من بيوتهم وبياراتهم وحدائقهم واللجوء إلى البلدة القديمة. 

وفي يوم 22/ 1/1948، أي بعد مرور شهر كامل على مقتل الجنود السبعة، قررت قيادة الهاجاناه القيام بعملية واسعة ضد قرية يازور، اشتملت على نسف مصنع الثلج والكحول وبنايتين مجاورتين له، ومهاجمة بعض البيوت الواقعة في أطراف البلدة. أسندت قيادة الهاجاناه مهمة التخطيط لإسحاق رابين، ضابط عمليات التخطيط العسكري في قيادة البالماخ في حينه، حيث شارك في تنفيذ العملية أكثر من مجموعة إرهابية، إضافة إلى أمنون جنسكي خبير المتفجرات في قيادة البالماخ. كانت يازور في حينه قد أصبحت شوكة في حلق الحركة الصهيونية شعروا بأنه لا بد من كسرها. تقرر البدء في الهجوم الواسع مع بزوغ فجر ذلك اليوم الشتوي الممطر، بانطلاق القوات الغازية إلى قرية يازور عبر بيارات البرتقال من الشمال والغرب والجنوب، حيث قامت تلك القوات بنسف مصنع الثلج ومصنع الكحول الذي كان يسمى "مصنع السبيرتو" الواقعين في طرف القرية الغربي على حدود يافا، ومهاجمة عدة منازل مجاورة ونسف بعضها، ما حول تلك العملية العسكرية إلى مجزرة أسفر عنها قتل عدة أشخاص من سكان يازور من بينهم حراس المصنعين. وفي تلك الليلة بالذات، وضمن حملة إرهاب يازور وسكانها، نجح الإرهاب اليهودي في تهجير عشرات العائلات من سكان البيوت والبيارات الواقعة على أطراف البلدة، كانت أسرتنا واحدة منها، حيث قام المجرمون في تلك الليلة باغتيال طفولتنا، ووأد أحلامنا، ومصادرة أملاكنا ومهد ذكرياتنا، وإجبارنا على مغادرة بيتنا وبيارتنا والافتراق عنها إلى الأبد.
فيما كنا نغط في نوم عميق في بيتنا الوديع الذي كانت تحتضنه أشجار البرتقال من كل جانب، صحونا على صوت انفجار مخيف، ورأينا ناراً يتصاعد لهيبها من بيت أحد أقربائنا من عائلة أبو ناموس، يقع على بعد 400 متر تقريباً من بيتنا في اتجاه الغرب. وفي ضوء الاعتداءات اليهودية المتواصلة على يازور، ظن والدي أن من الممكن أن يكون بيتنا مُستهدفا أيضاً، وأن العصابات الإرهابية ربما كانت في طريقها إلينا، وقد تصل خلال دقائق. لذا سارع الوالد إلى لف كل واحد من أبنائه وبناته باللحاف الذي كان يغطيه، والمصنوع من الصوف المبطن بقماش قطن ناصع البياض، وركض به نحو البيارة. وهناك رمى ذلك الطفل في الوحل تحت شجرة برتقال تبعد عشرات الأمتار عن البيت، وتركه وحيداً يرتعد من الخوف والبرد وتساقط الأمطار. كان الجو في تلك الليلة ممطراً وكان المطر غزيراً جداً، وكان البرد قارصا والليل حالك السواد، ربما كانت تلك الليلة أسوأ ليلة في تاريخ الإنسانية بالنسبة لطفل بلا ملابس دافئة، وبلا حذاء، وبلا غطاء، وبلا قدرة على رؤية أي شيء، وبلا مكان يهرب إليه أو يحتمي به، وبلا شعور إنساني، سوى خوف مميت. وفي الواقع، لم تحتفظ مخيلتي بليلة أكثر سواداً وأغزر مطراً وأشد برودة وأكثر خوفاً من تلك الليلة. وحتى يضمن العبد أبو ربيع نجاة بعض أولاده وبناته من الموت في حالة تعرضهم لقنبلة أو نيران رشاشات أو قنابل، قام بوضع كل واحد منهم تحت شجرة تبعد عدة أمتار عن أقرب شجرة يرقد تحتها طفل آخر. وبعد أن أكمل مهمته، بدأ والوالدة يتنقلان من شجرة لأخرى، يربتان على رؤوسنا، يتمتمان بالدعوات لنا بالنجاة، ويًتْلون بعض آيات القرآن، كأنهم يقرؤونها على رأس ميت، ويقبلوننا قبلة ظنوا أنها ربما كانت قبلة الوداع الأخيرة. كنت ارتجف من البرد والخوف وظلمة الليل حتى كاد قلبي يتوقف، ويغفو غفوته الأخيرة، من دون أن يكون باستطاعتي أن أبكي أو أنطق بكلمة واحدة، حتى التنفس حاولت أن أكتمه كي لا يسمع الإرهابيون همساته الضعيفة الخافتة. كان سواد الليل وزخات المطر وصوت الأشجار تهزها الرياح تتراءى لي كأشباح مخيفة تتحدى كل شيء حي، جاءت لتحملني إلى الجحيم، وتلقيبجثتي في نار جهنم... لقد أدركتُ في تلك الليلة السوداء معنى الخوف ورهبة الموت وقسوة العذاب عن قرب. 

مضت ساعة من الوقت تقريباً دون أن نسمع صوت انفجار أو إطلاق نار، كانت بعمر الزمن وقسوة تاريخ الظلم. نهض بعدها والدي، جمعنا معاً بعيداً عن البيت بعشرات الأمتار، وأخبرنا بأنه قرر الذهاب إلى البلدة القديمة، إلى بيت أولاد عمه الذين استمروا في العيش هناك، ولم يهجروا بيتهم للعيش في البيارات. سرنا ممسكين بأيدي بعضنا البعض، نرتعد من الخوف والبرد، حفاة شبه عراة، يقرص البرد أقدامنا ووجوهنا، ويثقل الطين والمطر ومستنقعات الوحل خطواتنا، وتلون العتمة عيوننا التي ظننا أنها فقدت قدرتها على الرؤية. لم يجرؤ العبد أبو ربيع على العودة إلى بيته الذي بناه بيده وقضى سنين من عمره في تزيينه وزراعة الورود من حوله، وذلك خوفاً من  ان يكون الإرهابيون قد اقتحموه وجلسوا فيه في انتظار عودتنا كي يقتلونا جميعاً بعد أن اغتالوا الحلم في رؤوسنا والطمأنينة في قلوبنا والأمل في عيوننا. لم نحمل شيئاً من ملابسنا أو ممتلكاتنا الشخصية بالطبع، حتى الألحفة التي كانت تغطي أجسادنا تركناها خلفنا، لأنها كانت مثقلة بالوحل والطين والماء بحيث لم يكن بالإمكان حملها، ولم يعد بإمكانها وقايتنا من البرد. 

كانت والدتي تسير في المقدمة تحمل في حضنها أختي وداد التي لم تبلغ من العمر ثلاثين يوماً، فيما كنت أسير إلى جانبها ممسكاً بيد أختي رهيفه التي كان عمرها حوالي ثلاث سنوات... كان عمري حينئذ حوالي ثمانية اعوام. أما والدي فقد كان يسير في الخلف وعلى ظهره أخي حامد الذي كان في الثانية من العمر، وتسير أمامه أختي الكبرى يُسرى ممسكة بيد أخي محمود من ناحية وأخي أحمد من الناحية الثانية. وحين خرجنا من منطقة البيارات بعد حوالي نصف ساعة تقريباً، قطعنا الطريق الدولي الذي يربط يافا بالقدس، ومن ثم دخلنا أزقة البلدة القديمة. وبعد منحنى قصير على الطريق نحو بيت أولاد العمومة، صقر ورقية وعبد الرزاق وعمر ومحمود إسماعيل ووالدتهم، رأينا شاباً مسلحاً من أبناء القرية يسير مسرعاً في الاتجاه المعاكس. وما كاد يقترب منا حتى لمع ضوء قوي فجأة أنار كل ما كان يحيط بنا من أرض وسماء، صرخت والدتي من الخوف، فيما صاح ذلك الشاب قائلاً: انبطحوا... انبطحوا... انفجار... انفجار بينما كان يلقي بنفسه على الأرض. لكن الانفجار كان أسرع منا بكثير، فقبل أن ننبطح، دوى انفجار ضخم، كان زلزالاً أرضياً، هز كل المباني المحيطة بنا، حتى الأرض من تحت أقدامنا. لقد جاء الانفجار لينسف معمل الثلج ويدمر عدداً من البيوت المجاورة له في ليلة يتيمة حزينة حالكة السواد، غابت عنها كاميرات التلفزيون وضمائر الإنسانية. كان الانفجار بعيداً عنا، أدخل الرعب إلى قلوبنا الضعيفة الخائفة، لكن شظاياه وناره لم تصل إلينا ولم تؤذنا. لكن أحداث تلك الليلة تسببت في قطع علاقتنا ببيتنا وبيارتنا وكل ما كان في البيت من أشياء ووثائق ومجوهرات ومال.

عرفنا في صباح اليوم التالي قصة الانفجار الذي دمر معمل الثلج وما نتج عنه من خسائر في المباني والأرواح، كما عرفنا ما نتج عن الانفجار الآخر الذي وقع في بيت أقاربنا وأيقظنا من النوم نرتعد خوفا... لم ينتج عن هذا الانفجار تدمير بيت أقاربنا، ولا إصابة أي من سكانه بأذى، كما وأن النار التي تبعته لم تتسبب في حرق أي إنسان. لم يستهدف الإرهابيون حياة أحد من سكان ذلك البيت في تلك الليلة، بل استهدفوا اغتيال إحساس السكان بالأمن في بيوتهم والاستقرار في بياراتهم والهناء في قراهم والحرية في وطنهم. لقد قام الإرهابيون بتدمير حظيرة حيوانات مبنية من الخشب ومادة الصفيح الذي يُحدث دوياً هائلاً حين ينفجر، ويتسبب في قتل كل شيء حي في داخله، كانت تلك الحظيرة بيتاً لبقرة هولندية عز على أصحابها فقدانها. تمزق جسد تلك البقرة المسكينة في منتصف الليل إرباً إرباً، ما أحزن صاحبتها كثيراً وجعل الحزن يعيش معها حتى آخر لحظة في حياتها. ويبدو أن المرأة رأت في فقدان البقرة وفي الطريقة التي ماتت بها صورة لكل ما فقدته من بيت وبساتين وقرية ووطن وهناء وأمن وراحة بال. كانت نساء يازور الأكثر عناية بالأبقار وحباً لها وقرباً منها، تقوم بإطعامها وتغسيلها وحلبها صباح مساء، وصنع اللبن والجبن والزبدة من حليبها. كان لوالدتي بقرة هولندية بيضاء اللون تتوسط جبينها بقعة سوداء جميلة، تحلبها كل يوم، وتضع حليب المساء في وعاء كبير مفتوح، تغطيه ببطانية صوف ثقيلة، وتكشف عنه في الصباح لبنا تغطي وجهه طبقة رقيقة من القشطة، يميل لونها إلى الاصفرار، ذات نكهة مميزة وطعم لذيذ نأكله بشهية غير عادية. 
بعد أيام من تلك الحادثة، قررت قيادة الهاجاناة تكرار الهجوم على يازور، حيث جاء المجرمون في ليلة معتمة من الشمال، متسللين من منطقة تل أبيب على طول خط سكة الحديد الذي يربط يافا باللد ويحد يازور من الشمال. وفي ضوء تواصل الهجمات على يازور، قرر رجالها تقسيم قريتهم إلى مناطق أمنية، وزعوها على أنفسهم، وأسندوا مهام حراسة كل منطقة لمجموعة من الشباب، وقاموا بتزويدهم بالسلاح الذي لم يزد في أحسن الأحوال على بندقية قديمة وعدد محدود من الطلقات النارية. كان السيد حسين أبو صفية وبصحبته مجموعة صغيرة من شباب القرية، يحرسون الحارة التي وصل إليها الإرهابيون قبل غيرها في تلك الليلة. وحين رأى أبو صفية اليهود قادمين من الشمال، صاح بأعلى الصوت قائلاً: يا أهل يازور... اليهود... هجم اليهود.. وقبل أن يكمل نداءه، كانت مئات الطلقات النارية قد اخترقت صدره وقتلته في الحال. استخدم الغزاة في تلك الليلة رصاصاً أحمر اللون، يبدو أنه كان أكثر فاعلية في حرق الأشجار والبساتين، وقتل الرجال والنساء والأطفال... قتل الإرهابيون اليهود في ذلك الهجوم عدداً من شباب يازور، كان من بينهم علي تيمه، وخليل مصطفى، وحسين سليمان، ويوسف الخربثاوي. 

قبل وقوع حادثة نسف معمل الثلج، وعلى مدى أسابيع متواصلة، لاحظ أهل يازور وجود شخص غريب عن القرية ظنوه مجنوناً، كان يجوب شوارع القرية كل مساء، ويصيح بين الحين والآخر بأعلى الصوت قائلاً: "باعوها وأنت نايم يا أبو الغنايم". لقد ظن البعض أن ذلك "المجنون" يحاول إيقاظ أمة من سباتها، لكنه اختفى من القرية بعد أسابيع لأنه على ما يبدو أدرك أن الأمة التي يحاول ايقاظها تغط في نوم عميق ولن تفيق. لكنني أعتقد أن ذلك الرجل كان عميلاً للحركة الصهيونية، وأن ما قام به جاء ضمن حملة الحرب النفسية التي شنتها تلك الحركة على قرية يازور إلى جانب الحملات العسكرية. لقد كانت يازور يقظة تماماً، ولهذا وقفت للمعتدين بالمرصاد، لكنها كقرية معزولة السلاح إلى حد كبير، لم يكن بإمكانها أن تقوم بشيء سوى الدفاع عن نفسها، وهذا ما قامت به بجدارة. وحين ناقشتُ حكاية هذا الرجل مع والدي وعمي وبعض الأقارب فيما بعد، اتضح لي أن عملية نسف معمل الثلج وما رافقها من قيام مئات العائلات بترك بيوتهم وبساتينهم الواقعة على أطراف القرية، إضافة إلى ما فعله ذلك الرجل كان لها أثر كبير في إدخال الرعب إلى قلوب الناس، ودفع غالبية رجال البلدة إلى ترحيل نسائهم وأطفالهم بعيداً عن الخطر خارج يازور. لذلك حين دخل شهر مايو ايار من عام 1948، لم يكن قد بقي في يازور سوى الشباب القادر على حمل السلاح وبعض العائلات، ما جعل من السهل على هؤلاء ترك قريتهم واللحاق بعائلاتهم التي كانت قد انتقلت إلى مدن مثل اللد والرملة والقرى الممتدة على طول سلسلة الجبال المحيطة بها.
تواصلت الهجمات على البلدة ليلة بعد أخرى، ما تسبب في تزايد عدد القتلى والجرحى من أبناء يازور، كان من بين الجرحى اثنين من أولاد عم والدي، صقر إسماعيل وأخيه عبد الرزاق. إذ فيما كان عبد الرزاق ورفيق عمره أحمد عبد الواحد يقومان بحراسة طرف القرية الواقع على الحدود مع مستعمرة نيتر، قام بعض أفراد عصابة شتيرن بمفاجأتهم وإطلاق النار عليهم، ما أدى إلى قتل أحمد عبد الواحد على الفور، وإصابة عبد الرزاق إسماعيل بجروح بليغة في الرقبة وكسور في اليد اليمنى والرجل اليسرى رافقته حتى آخر يوم من حياته. في ضوء تلك التطورات، قرر العبد أبو ربيع إرسال أولاده وزوجته إلى مكان آمن، خارج يازور، بعيداً عن مسرح المعارك... إلى قرية بيت نبالا. وحيث أنه لم يكن بإمكان العبد أبو ربيع أن يهجر قريته الحبيبة ومسقط رأسه، ولا أن يتخلى عن أصدقائه ورفاق دربه من المناضلين، فإنه قرر، على الرغم من توسلاتنا، أن يبقى مع المدافعين عن الأرض والوطن حتى آخر لحظة. ذهب عمي جمعة إلى قرية بيت نبالا التي تبعد حوالي 35 كيلومترا عن يازور في اتجاه الشرق، وتقع على سفوح أول سلسلة من جبال فلسطين المشرفة على الساحل الفلسطيني وعلى مدينتي الرملة واللد. وهناك قام العم بزيارة مختار القرية والتباحث معه بشأن ترحيلنا مؤقتا إلى بلدتهم. كان مختار قرية بيت نبالا، السيد

حسن خليل، رجلاً شهماً وصديقاً قديماً لوالدي، يتبادل معه الزيارات والبضائع، خاصة الزيتون وزيت الزيتون والزعتر... تلك المنتجات التي كانت تنتجها بيت نبالا بكثرة، وكنا نحبها ونستخدمها يوميا. 
سافر عمي إلى قرية بيت نبالا عن طريق سلسلة القرى الفلسطينية التي تبعد عن الطريق الدولي العام، لأن الطريق كان حينئذٍ قد وقع تحت سيطرة العصابات اليهودية. وبعد عودته من رحلته القصيرة بيومين، ركبت زوجته وأولاده وبناته، وركبت أمي وأولادها وبناتها في سيارة نقل صغيرة حملتنا إلى قرية بيت نبالا. كان ركوب تلك السيارة أول خطوة نخطوها على طريق  طويل في رحلة شتات لم نكن ندرك أنها لن تنتهي. كان علينا أن نمر على "حزبون"، نقطة المراقبة اليهودية على الطريق بين يازور وبيت دجن. وخوفا على حياة عمي الذي رافقنا تلك الرحلة، أصرت والدتي أن يتخفى بوضع لباس امرأة تقليدي على رأسه. أوقفنا المسلحون اليهود، وقاموا بتفتيش السيارة بدقة، إلا أنهم لم يعتدوا علينا... كانت الأوامر الصادرة لهم تطلب منهم تسهيل مهمة الهاربين من الفلسطينيين، شريطة أن لا يحملوا معهم سلاحاً أو أي شيء ثمين من ممتلكاتهم الشخصية. وصلنا إلى بيت نبالا في عصر يوم بارد حزين، إلا أن استقبال المختار وعائلته لنا كان دافئاً جداً، أزال الكثير من المخاوف والشكوك التي ساورتنا في حينه. وتعاطفاً مع إخوانهم وأبناء وطنهم من اللاجئين، أصر جميع أهل بيت نبالا على استضافة كل المُهجرين من المدن والقرى الفلسطينية في بيوتهم. كان الهاربون من وجه الإرهاب الصهيوني قد بدأوا في الوصول إلى قرية بيت نبالا وغيرها من قرى مجاورة يومياً وبأعداد كبيرة بحثاً عن الآمان. 

تواصلت العمليات الإرهابية اليهودية في منطقة الساحل حتى استولت قوات الهاجاناه على مدينة يافا وكل القرى المحيطة بها، ومن ضمنها بالطبع قرية يازور. وبسقوط يافا والقرى المجاورة لها مثل سلمة وبيت دجن والسافرية، أصبحت الطريق مفتوحة لقيام القوات الصهيونية بالاستيلاء على مدينتي اللد والرملة والقرى القريبة منها والمحيطة بها، ما جعل المعارك تقترب من قرية بيت نبالا يوماً بعد يوم. إذ لم يتوقف دوي المدافع يوماً، ولم يسكت صراخ الأطفال ليلة، ولم تهدأ مخاوف الناس ساعة، ولم ينقطع سيل قوافل المهجرين من منطقة الساحل إلا حين استكملت الحركة الصهيونية تحقيق أهدافها واستولت على بيت نبالا والقرى المجاورة لها في حوالي منتصف شهر تموز عام 1948. كانت تلك القرى تشكل فيما بينها سلسلة من البلدات العربية المتمركزة على قمم الجبال المطلة على مدينتي اللد والرملة وغيرها من مدن وقرى الساحل الفلسطيني. وهذا جعل قضية احتلال تلك القرى وتفريغها من سكانها قضية استراتيجية بالنسبة للجيش الإسرائيلي حماية للمناطق التي تم احتلالها والتي أصبحت تشكل دولة إسرائيل. 

حين سقطت يازور مع غيرها من مدن وقرى ساحلية في أوائل شهر مايو 1948، أي قبل إعلان قيام دولة إسرائيل بأيام، تفرق كل من كان قد تبقى من أهالي يازور. وفيما حاول البعض النجاة بحياتهم عن طريق البحر وانتهى بهم الحال في غزة ورفح وخان يونس ومخيماتها البائسة، كان من بينهم بعض أقاربنا من عائلة أبو ناموس، وعائلة حجاب اليافاوية وابنتهم التي خطبها خالي بعد قصة حب عاصفة. أما الأغلبية فقد سارت في اتجاه مدينتي اللد والرملة والقرى الواقعة في المنطقة الجبلية المطلة عليها، ومن بينها قرية بيت نبالا التي لم تكن أفضل حظا من يازور. ولقد انتهى الحال بهؤلاء إما في مدن رام الله والقدس وبيت لحم والخليل ونابلس والمخيمات المحيطة بها، أو في المخيمات المحيطة بأريحا، خاصة مخيم عقبة جبر الذي أصبح مع نهاية العام 1949 أكبر مخيم للاجئين الفلسطينيين. ومن هناك قام كثيرون بعد فترة بمواصلة السير إلى عمان واللجوء إلى المخيمات المتناثرة فيها وحولها، خاصة مخيمات الوحدات والمحطة ومدينة الزرقاء. وعلى الرغم من الآثار الكارثية للنكبة، إلا أن فقدان الممتلكات والأراضي الزراعية كان سبباً في دفع أغلبية شباب فلسطين، ومن بينهم شباب يازور بالطبع، إلى السفر إلى أقاصي المعمورة طلباً للعلم، وبحثاً عن فرص أفضل للعمل والعيش والحرية. ومع سقوط بيت نبالا تواصلت رحلتنا على طريق الشتات، وتذوقنا طعم الفقر ومذاق الألم وعذابات الضياع... فقر وضياع وشتات لم ينته حتى يومنا هذا


Deprecated: Directive 'allow_url_include' is deprecated in Unknown on line 0