ســـــيــــــرة نــفـــيـــســـة

مقالات عامة
الكاتب: 
الكاتبة فاطمة غندور

الكاتبة فاطمة غندور

كاتبة حرة - ليبيا
الأحد, أغسطس 9, 2020 - 20

تشغلني فأبحث عنها،  لكنها تنشغل عني إذ تنسج يومها مُفردة وهي سيدة نفسها ، عمتي نفيسة الزروق تقارب عقدها التاسع تبدأ رحلتها اليومية بمشوارها من بيتها بحي التركيات ، الى واحة براك القديمة تسترجع ألفة وحميمية علاقتها بأطلال المكان وما تبقى من معمار لأزقة وبيوت تقليدية بنيت بالطين وجذوع النخيل ، بيتها بـ "بن سريوة " المجاور لزنقة "بو خوخة" والمحاذي لـ " جِنت خويدم" ، هناك حيث الغابة وما يعمرها من نخلات، وجداول لخضار زرعتها منذ سنوات وتمنحها ثمارها : طماطم ،وقرع، ولوبيا ، وفلفل ، وخيار …، أما زريبة شياهها فقد منحتها بعد أن باعت آخر خرافها .

عند عين ماء ( براك ) تجيء بعض صويحباتها اللاتي يصغرنها بعقد أو عقدين من الزمن: غزالة عاشور ، وحليمة كُحماني، ومدينة حسن ، يجلسن بمحاذاة العين يغسلن ثيابهن، ويغذين شياههن ، عندها  تتداعى ذاكرتهن  بسيرة المكان بما حواه أحداثا وشخوصا لعقود خلون ،وغالبا ما يختلفن حول تعين حادثة تلح عمتي على وثوقها منها زمانا ومكانا ، وقد تنهض و تغادرهن مُنفعلة حين يشتد السجال بينهن وتتعالى أصواتهن بأغلظ الأيمان  لتتمشى خطوات بعيدة عنهن مُلتقطة لحبات التمر اليابس ( النفيض ) المتساقط على الأرض تملئه وسط ردائها الأحمر الزاهي ، وتعاود لهن وتضعه حذو ما أعددن من مكونات الفطور: براد الشاي الأخضر ، وكسرات من خبز التنور الأسمر ، وما قطفن من خضار ، ويأخذهن الحديث والانشغال بما حولهن ، في ذات المكان قصة مضت ولكنها في البال مستعادة فتيات خرجن لجمع تمارهن فتقدم تجاهن عسكري فرنسي بملابس مدنية متحرشا وقاصدا الإساءة لهن ، فما كان من عمتي الا أن رفعت منجلها في وجهه وقاربت أن تصيبه لولا هروبه مُسرعا نافذا بجلده ،وقد تحمست مرافقاتها للثأر منه مسرعات خلفه لولا أن غاب عن ناظرهن ،اليوم في جلساتهن الصباحية يفاخرن بها . " أنفوسه الفارسة" هكذا ينادينها ، فترفع عمتي صوتها بدعواتها لماضي الله لا تعيده ولا ترده، وتحثهن على الانتباه الى (الضحوية) شمس الظهيرة وقبل أن تشتد حرارتها،  لينظفن المكان لموعد الغد، ويجهزن لأوبتهن الى براك المدينة . 

 عمتي تعرج على بعض أقاربها ، ورفيقات سنها : حوا سعد ، وغزالة عاشور، ومهاره ، تسأل عن أحوالهن الأسرية والصحية ، وقد تشاركهن وجبة الغذاء، وحكايا القيلولة، فكثيرا ما تحضر صبايا العائلة وبنات الجيران شغوفات بما تؤملهن به وهي الراعية لمشاريع خطوبة وزواج تتوسط بين العائلات وتعرض على نسائهن الأمهات ما قد تراه مناسبا لتأسيس عائلة ، أولم شمل متفارقين ، فيسترشدن برأيها ،ويطلبن عونها لتستطلع حظهن ،ونصيبهن في مقبل الأيام ، فتمد عمتي ذراعها وتقيسها أشبارا بيدها مُرددة :  " يا تاقزة النبي أصدقي وما تكذبي... ساولتك بالنبي... تجيبي ما فيك عن فلانه بنت فلان" ، قاصدة التعويل بندائها ( التاقزة ) على من أنقذت نبينا محمد حين توجست شرا ممن كان يريد أهداءه طعاما مسموما وقد صدق تخمينها حين عرض الطعام على قطة فماتت بمجرد أكل لقيمات ، وهنا تسألها العمة نفيسة أن ترشدها وبأن يكون فألها مماثلا لصدق نواياها حدسا و تخمينا لمن يثقن برأيها ، لكنها أيضا تختم مسامرتهن بحكمتها التي لا تفتأ تعيدها على مسامعهن :  إن صبرتوا أجرتوا فأمر الله نافذ ... وإن كفرتوا جهلتوا وأمر الله نافذ ، فلسفتها في الحياة لما يقدر ويكتب للأنسان في صحيفته ، فلسفتها تلك التي لم أسمعها من غيرها طوال فترة جمعي لمادة الحكايات الشعبية ببراك الواحة المركز الأداري لسلسلة واحات وادي الشاطي جنوب ليبيا . 
  عمتي التي تتذكرها والدتي إذا ما حكت عنها في زمانها بأنها : الجميلة بجسدها الفاره ، عرفت الحياة ودخلت الدنيا مرات ست ، كانوا أبناء عمومة غير واحد ، وبطولها وامتلاء جسدها عاركت هذه الحياة ، حراكا ودبيبا ، وبشخصيتها النافذة القوية حين كان على إخوتها الاغتراب للدراسة والعمل في طرابلس وبنغازي، فرعت شؤون أسرتها نخلا وشياها ، عدا عملها داخل البيت برعاية والدتها ، وولديها عبد الرحمن، ويحي الذي فقدته إذ أصيب بشلل الأطفال ،وأعيتها الحيلة لعلاجه حين هجرها الزوج ، ووالدتي أيضا التي كانت آنذاك زوجة الشقيق المُرتحل وذات الأثني عشر عاما ، وأنها أيام شبابها أيضا كانت الطباخة الماهرة تتفنن في صنع  "الدويدة " عجينة، وتجفيفا بتشميسها وتحميسها ( ما يشبه المكرونة حاليا ) ، وإعداد إيدامها ما جعل نساء حيها يطلبنها خصيصا في مناسبتهن، ليحظين بوجبة لذيذة مُشتهاة من معازيمهن ، يومها كانت صحون الطعام تتبادل بين الجيران بما يتسنى منحه ودون حرج، بل كثيرا ما يكون عطاءً في محله ،إذ ظروف الحياة البسيطة لم تكن لتوفر وجبة الطعام اليومية.    

                                                                              
في طفولتنا سبعينيات القرن الماضي شكلت جزءً من ذاكرتنا الحميمة ، حين كُنا نزورها في عطلتنا الصيفية في بيت العائلة القديم الذي لم تدخلهُ الإضاءة حينها ، ولا مواسير المياه ، كانت تفرح بنا وتدللنا ، تأخذنا معها في مشاويرها ،والتي كلها سعي ، وتعاود بنا الى البيت تجهز سعفها الذي يجهدها اختياره، وتجفيفه ،وتشليخه، وصباغته ألوانا جميلة أحمر، وأخضر، وأزرق، كما تنتقي خيوط الصوف المصبوغة الجيده تزين بها ما تصنعه من أطباق مختلفة الأحجام ، والتي تزين مطبخنا اليوم، وأخر النهار وعلى ضوء الفنار تجلس الى رحاها لنسمع شجوها وأنينها الموازي لحشرجة الرحى ،وقتها كنا نخال عمتي تبكي تعب يومها، ونسأل سؤال الطفولة فلا نرى دموعها ،ولا دموع رفيقتها التي تُعينها وتردد معها وأحيانا ترد على أغنيتها .

 عمتي راوية للشعر وحافظة ، وإن خانتها ذاكرتها أحيانا في إكمال نص ما تترنم به ، حين أعلمتها بمشروعي لتسجيل خراف براك من نساءها ، قطعت شوارع براك بأحيائها الأربع ودخلت بيوتا ربما لم تعرف أهلها مُسبقا تسألهن مساعدتي ، واستحضار تاريخ براك ، وسير رجالها ، وحكاياتها ، وهي من رتبت مواعيدي، وأخجلتني أحيانا حتى أؤنب نفسي  حين تصل قبلي وهي من تسير راجلة  الى مكان الجمع الذي أصله بالسيارة !، وإذا ما تقاعستُ وتأخرتُ المجيء من طرابلس لانشغالي الوظيفي  تتولى باتصالاتها تذكيري بمسؤليتي وواجبي ، وأن هناك من ينتظرنني ولديهن مخزون مما أرغب ، وحين أصل تستقبلني ببيت خالتي بجدول مواعيد لبيوت سأزور أغلبها مساءً، وعقب المسلسلات المكسيكية المدبلجة التي شغلت البيوت آنذاك ، وتُعلق بأن ذلك في صالحي لأن الخراف وقته المساء .

سأدين لها ولنساء براك بتلك الثقة وبراح الاطمئنان ،وانا ألج وسط بيوتهن لأول مرة ، ورحابة صدورهن وكرمهن الفياض ، والأوقات التي استمتعت فيها بأصواتهن الراوية والمؤدية بحرفية وكأني بهن ممثلات في مسرح القص الشعبي ،غمرنني بدفئهن، وطيبة قلوبهن في جلسات التسجيل وأجواءها التي منحتني مادة بحثي التي غامرت بتبني موضوعها وخطتها قبل أن أملك نصا واحدا ،ولعلي كنت تلميذتهن وأنا أشهد خُلقهن المتسامح ، وإيثارهن ووفائهن ودأبهن في السؤال عن أحوال بعضهن البعض ، وعني فألى اليوم وسلامهن يصلني ، ويطلبن عودتي فمازلن يحملن أشعارَ وسيرَ وأغاني واحتهن . 

وأسأل عن عمتي التي تشغلني إذا ما هاتفتها ، فتخبرني أن ساقيها أعجزتاها عن الوصول الى واحتها التي تحب، لكنها ستساعدني إذا ما قررت الذهاب إليهن ،فأعدها خيرا ،وأني بانتظار مجيئها المعتاد الي طرابلس أوائل فصل الصيف لمراجعة شؤونها الصحية، والجلوس الى أحفادها ،وزوجات وأبناء أشقاءها . وسأعذُرها إذا ما جاءت إلينا لتعُد أيامها وأسابيعها، ويعاودها الحنين وتلح في الأًوبة الى ديارها براك وأهلها ، ونتشاكل لإرغامها على البقاء ومُؤانستنا فتذكرنا بوصية والدي – رحمه الله – نفيسة شقيقتنا الكبرى سيدة نفسها ، لا تضغطوا عليها ، واتركوها لما تختار، صنعت حياتنا بحكمتها وشجاعتها وأنفتها لنكون كما نريد، فدعوها لما تريد وتحب.