الشتات الحلقة التاسعة " قرية جفنة "

الكاتب: 

الدكتور محمد ربيع

كاتب وشاعرومفكر - واشنطن دي سي
الجمعة, أغسطس 13, 2021 - 03

بعد قضاء ثلاثة أيام في منطقة نعلين، وكان شملنا حينئذ قد اكتمل وهدأت نفوسنا قليلاً، واصلنا السير في اتجاه مدينة رام الله سيراً على الأقدام، يحمل الكبار منا الأطفال على أكتافهم أو على ظهورهم، لا نعرف من الأكل سوى الخبز وبعض الفاكهة والخضراوات والأعشاب البرية التي صادفناها في طريقنا، خاصة الزعتر والعنب الذي لم يكن قد نضج بعد. توقفنا ليلة في قرية دير عمار للاستراحة، وهناك شاهدنا المئات مستلقين على جانبي الطريق في ساحة القرية وقد أرهقهم التعب والعطش والجوع. ومع طلوع النهار واصلنا السير حتى وصلنا مدينة بير زيت، وهناك قضينا يومين قبل مواصلة السير إلى قرية جفنه، البلدة الوديعة التي تحتضنها بساتين الفاكهة من كل جانب، ويمدها بالماء نبع شهي يتوسط البلدة وتؤمه نساء القرية كل مساء. جفنه بلدة تسكنها أغلبية مسيحية، أبدت تعاطفاً كبيراً مع المشردين من أبناء وطنهم، وقام الأهالي عامة بمد يد العون للمحتاجين منهم، وهذا شجعنا على الإقامة فيها حتى شتاء ذلك العام. 

رأيتُ أثناء توقفنا في بير زيت صديق طفولة من أقاربنا، الصديق العزيز نزار طه، كان قد توقف مع أسرته هناك بعد رحلة طويلة من يازور. كان نزار واحداً من مئات اللاجئين الذين كانوا ينامون على الأرض ويلتحفون السماء، ويقضون ساعات النهار في ضياع وهلوسة في انتظار قدر يغير الحال ويبدل الأحوال. وبسبب الرغبة الملحة في سماع كل الأخبار وآخر الأنباء، قام نزار بصنع راديو صغير مستخدما ما توفر في القرية من أسلاك ملقاة في الشوارع. وحين شرح لي ما فعل وكيف صنع ذلك الراديو البدائي، وبعد أن سمعت بعض الأغاني من الراديو، صعقت تماماً. كان نزار عبقرياً، لكن حظه كان سيئاً، إذ لم يستطع مواصلة التعلم والدراسة، لكنه استطاع استخدام مواهبه في عمليات تصنيع بسيطة ضمن نطاق ما يسمى "الحدادة والخراطة" وبالتالي استطاع العيش حياة كريمة. كنت أحب نزار مع أنه كان يكبرني بثلاث سنوات على الأقل، وذلك لأنه كان يسكن بالقرب منا في يازور، وكان يصنع من الأسلاك عربات جميلة ذات عجلات، كنا ندفعها بأيدينا ونسير بها مسافات طويلة نسبياً، بين بيته وبيتنا وبيوت الغير من أولاد الحي... عربات للتسلية والتنزه والمباهاة. كانت تلك العربات هي كل الألعاب التي عرفتها في طفولتي، تلك الطفولة التي أُجبرتْ على التخلى عن طبيعتها الطفولية يوم الثاني والعشرين من شهر يناير كانون الثاني عام 1948 حين اُغتيل الحلم في يازور، وتوارى الفرح في عتمة الليل، وهربت العصافير بعيداً عن بيوتها ووطنها من قسوة البرد وبنادق الإرهابيين.

حين وصلنا قرية جفنه، استعذب الجميع ذلك المكان، والدي وعمي وأولاد عمومتهم الذين رافقونا الرحلة من يازور إلى بيت نبالا، ثم إلى نعلين ومنها إلى جفنه. وحين قرر الجميع الإقامة هناك ريثما نعود إلى ديارنا، وذلك لأن حلم العودة كان ما يزال حياً يداعب خيال الجميع، رأى العبد أبو ربيع أن من الأفضل استئجار كرم من كروم الفاكهة والإقامة فيه، وذلك خوفاً من قيام أولاده بالاعتداء على كروم الغير والتسبب في وقوع مشاكل لا داعي لها. لذا اشترى الوالد "شادرا"، أي خيمة كبيرة من المشمع من ضابط عراقي، واستأجر كرماً صغيراً مُثمراً للإقامة فيه. كانت قوات الجيش العراقي التي شاركت في حرب فلسطين تستعد للعودة إلى وطنها بسبب سقوط 78% من فلسطين في أيدي الصهاينة وتوقف العمليات العسكرية. نصب شباب العائلة الشادر، وأقاموا داخله قواطع قسمته إلى أقسام متساوية بين الأسر الثلاثة. وبعد أن استقر بنا الحال هناك، قام والدي بالمتاجرة في العنب، حيث كان يشتريه من قرية "خربة أبو قش"، الواقعة بين بير زيت ورام الله، وينقله إلى مدينة نابلس بسيارات نقل صغيرة مستأجرة، ويبيعه في سوقها الكبير. كنت أرافق والدي في رحلاته تلك، وهناك، في خربة أبو قش التي أصبحت اليوم مقراً لحرم جامعة بير زيت، تذوقت أفضل عنب أسود في حياتي. إلا أن قصر موسم العنب كان سبباً في عودة حياة الانتظار والملل مجدداً، واستفحال تبعات البطالة والمعاناة، وانعدام وجود دخل يلبي حاجة الأسرة. 

ومن أجل "قتل الوقت"، وتخفيف وطأة الانتظار حتى يحين موعد العودة المنتظر إلى بيوتنا في يازور، دأب والدي وأعمامي وبعض الأصدقاء على الذهاب كل بضعة أيام إلى عين ماء تقع في منطقة جبلية تبعد عن جفنه بضعة كيلومترات، اسمها "عين سينا"، ومعهم كميات من المكسرات: بزر بطيخ وقرع، لوز، فستق حلبي، وفستق سوداني، وغير ذلك. كانت وظيفتي الأساسية، ليست المشاركة في الحديث أو في أكل ما طاب من مكسرات، وإنما تسليتهم من خلال قراءة كتاب كبير الحجم ثقيل الوزن، ورقه أصفر اللون، لا أدري من أين حصلوا عليه، عنوانه "فتوح الشام". وحين عاد لي وعيي في غابات جاتلنبيرج ونكسفيل الواقعة في ولاية تينسي الأمريكية في عام 1967، (سنأتي على سرد تفاصيل هذه القصة وأسبابها وتبعاتها لاحقاً) اكتشفت أن سماعهم لما جاء في ذلك الكتاب كان بمثابة علاج نفسي... فإذا كانت الجيوش العربية قد هُزمت أمام المليشيات الصهيونية وفشلت في تحرير فلسطين اليوم، فإن النصر قادم لا محالة، لأن العرب الذين فتحوا بلاد الشام في الزمن القديم لا شك قادرون على استعادة فلسطين في المستقبل القريب. كان التمتع بسماع البطولات الماضوية يُعطيهم الإحساس بإن هزائم جيوش العرب في الأمس القريب، وإن بدت كبيرة، إلا أنها صغيرة جداً إذا ما قورنت بحجم انتصارات الأمس البعيد. وعلى من يشك في ذلك أو يريد التأكد من حتمية النصر، أن يقرأ كتاب فتوح الشام، أو يطلع على سيرة خالد بن الوليد أو صلاح الدين الأيوبي أو عنترة بن شداد. ومع الحلم بتلك البطولات فشل والدي وأصدقاؤه كما كما فشل العرب عامة أن يروا الجرائم التي ارتكبتها القوات العربية الغازية بحق سكان البلاد الأصليين في سوريا وفلسطين وغيرها. هكذا كنا نفكر، وهكذا عشنا حياتنا كأمة حتى يومنا هذا... طريقة عبقرية في الحياة والتفكير، تكرس هزائمنا دون أن توقظ وعينا أو تُقلق ضمائرنا. 

كلما أتذكر كتاب "فتوح الشام" أتساءل كيف كان من الممكن ان يرى صبي في التاسعة من العمر أن ما فعله المسلمون في بلاد الشام كان جرائم ولم يكن قضية هداية أو دين، وكيف أنه فشل أن يراها كغيره من مسلمين بوصفها دعوة دينية وفتوحات وانجازات عظيمة. نعم، هذا سؤال مهم للغاية لكن الإجابة عليه سهلة. حين سمع الوالد وأصدقاؤه سرد البطولات العربية لم يستطيعوا أن ينظروا في عين الحقيقة ويتخيلوا حجم الجرائم التي جسدتها تلك البطولات، لأن وعيهم كان قد زُيّف قبل الاطلاع على تلك الحقائق بسنوات. لكن الصبي لم يكن وعيه قد زُيّف بعد، بل كان ما يزال في طور التكوين، ما جعله يكتشف حقيقة التزييف، ومع اكتشاف تلك الحقيقة أصبح وعي الصبي عصي على التزييف، وأداة للثورة على تزييف الوعي فيما بعد. لقد كان من غير الممكن أن لا يرى صبي فلسطيني جرائم العرب الأوائل على حقيقتها ويسكت عليها، وقد شاهد القتل والإرهاب والتطهير العرقي على أيدي صهاينة يهود في وطنه، وضده، وضد عائلته، وضد شعبه... صبي يعيش مأساة التشرد والفقر والسكنى في خيمة بائسة وقد صادر الإرهابيون طفولته وذكرياته وأشياءه وكادوا أن يصادروا ذاكرته وحياته. إن الجرائم التي ارتكبها المسلمون في بلاد الشام والعراق وفارس باسم الإسلام هي نفس الجرائم التي ارتكبها الاوروبيون البيض في أمريكا الشمالية والجنوبية ضد سكانها الأصليين وضد الأفارقة السود باسم المسيحية، وهي الجرائم التي ارتكبها وما يزال يرتكبها الصهاينة في فلسطين ولبنان باسم اليهودية. إن الجريمة جريمة بغض النظر عن هوية من يرتكبها والذريعة التي تُسوغها، وإن الضحية ضحية بغض النظر عن دينها ولونها ولغتها، وإن آلام الضحايا وعذاباتهم هي إرث إنساني مشترك يشكل وصمة عار في جبين الإنسانية، وليس انجازأ حضارياً أو دينياً لأي شعب.

لم يكن كتاب فتوح الشام كتاب تاريخ بالمعنى العلمي المتعارف عليه اليوم، بل كان سيرة قبائل بالمعنى الحكواتي الشائع لدى العرب، ما جعله لا يتضمن تحليلاً للأحداث ولا تفسيراً للانتصارات ولا تعليلاً للهزائم التي تحاشى الكتاب وكاتبه ذكرها بقدر الإمكان. كان كتاب فتوح الشام في الواقع عملاً أقرب إلى الخيال منه إلى التأريخ المؤسس على حقائق. وحين طُلب مني كتابة ورقة عن مستقبل التعليم في البلاد العربية لتقديمها في مؤتمر حول مستقبل العالم العربي عقد في عام 1977 في جامعة جورج تاون في واشنطن، كان كتاب فتوح الشام حاضراً في ذهني على الرغم من مرور أكثر من ربع قرن على قراءته، ما دفعني للقول بأن المؤرخين العرب تعاملوا مع التاريخ العربي وكأنه سجل لحكايات وخرافات ومعجزات كثيرة، ما جعلهم يكتبون "قصصا مختلقة لا تاريخا". Arab historians wrote fiction, not history. ومع بساطة تلك الكلمات، إلا أنها تركت صدى لدى كل من سمعها واستوعبها من المشاركين في ذلك اليوم، ما فرض عليهم التفكير في أبعادها بالنسبة لوعي العرب لماضيهم، وفهمهم لتركتهم الحضارية، وتأثيرها على طريقة تفكيرهم ومسيرتهم الحياتية. 

حين بدأت القوات العراقية عملية الانسحاب من فلسطين في أواخر عام 1948، عرض قائد الجيش العراقي على جميع اللاجئين الذهاب معه إلى العراق واستضافتهم هناك حتى يحين موعد العودة. وفي ضوء تدهور الأوضاع الحياتية والمعيشية وانعدام فرص العمل والدخل، قرر الوالد قبول العرض العراقي ومغادرة فلسطين. إلا أن أعمامي جميعاً، أخيه جمعه وأولاد عمه الذين لم يخالفوه رأياً في السابق، رفضوا أن يسمحوا له باتخاذ قرار بتلك الأهمية من دون موافقتهم، ولذا منعوه من السفر إلى العراق. لقد تحكم العبد أبو ربيع في القرارات العائلية طويلاً، لكن دورهم كان قد حان، ما جعلهم ينزلوننا بالقوة من سيارة الجيش العراقي بعد أن كنا قد ركبنا فيها بالفعل. نزلنا من السيارة، فيما كانت دموع الوالد تتساقط على خديه، ووجهه مغموراً في كفيه. انتظرنا في جفنه أسابيع أخرى، لكن الأوضاع الحياتية بقيت على حالها، لم يتغير شيء سوى موعد العودة الذي راح يبتعد يوماً بعد يوم بدلاً من أن يقترب، ما جعل ملامح المستقبل تبدو أكثر ضبابية، خاصة وأن طلائع الشتاء والبرد القارص كانت قد بدأت تطل برأسها المخيف. لم يكن بإمكاننا أن نتحمل العيش في منطقة جبلية شديدة البرودة تتساقط الأمطار والثلوج فيها بكثرة من دون بيت يأوينا، ومن دون ملابس مناسبة. لذا بدأت عملية البحث مجدداً عن مكان آخر، عن محطة شتات جديدة تكون اقل قسوة وأكثر احتمالا. 

رأيت والدي يبكي مرتين في حياته، كانت المرة الأولى في جفنه حين هيمن عليه اليأس واستبد به الإحباط والخوف من شبح المستقبل، ونظر أمامه فلم يرَ سوى نفق معتم يكتنفه ظلام دامس من كل جانب، خطا خطوة قصيرة مترددة، عله يرى شعاعاً ضعيفاُ يطل برأسه من بعيد، إلا أن عتمة النفق ازدادت حدة ورهبة، معلنة أن الليل ما يزال في أوله، ما جعله يفقد القدرة على مواصلة السير، جلس هناك وقد غمره الظلام والإحباط وبكى بحرارة ومرارة. أما المرة الثانية فقد حدثت بعد عشر سنوات تماماً حين رأيته ينزوي في ركن صغير من أركان مطار القدس، يودع حبيباً على قلبه، ويبكي بصمت، وذلك لسبب يختلف في طبيعته عن السبب السابق... كان يودع حبيباً يسافر سعيداً في عين الأمل.

الهروب من الشتاء إلى الصيف

حملت عائلات أبو ربيع وإساعيل وأبو ناموس ما كان قد تجمع لديها من ملابس وأشياء بسيطة، وتابعوا سيرهم مع أطفالهم على طريق الشتات في اتجاه الشرق يبحثون عن محطة دافئة، بعيداً عن شتاء جفنه وصقيع جبالها وبساتينها التي عراها الخريف بعد أن سرق الخضرة من عيونها. كان الرحيل هروباً من الشتاء إلى الصيف مع العلم بأن الطريق لن تمر على ربيع ولن ترى أزهاره وطيوره. كنا قد سمعنا عن مدينة أريحا، تلك البلدة التاريخية الهادئة التي تقع في شرق فلسطين على بعد بضعة كيلومترات من نهر الأردن والبحر الميت، وتتميز بجوها الحار صيفا والدافئ الجاف شتاء. ومشياً على الأقدام، قطعنا مسافة تقدر بحوالي 40 كيلومتراً عبر منطقة جبلية وعرة، استغرقت يومين ونصف اليوم، كان الشباب خلالها يحملون الأطفال، وكان الصغار يبطئون حركة الكبار، ويثقلون كاهلهم بالبكاء والهموم. وفي منتصف اليوم الثالث، وصلنا إلى "عقبة جبر"، تلك المنطقة الصحراوية القاحلة التي تقع على سفوح آخر هضبة جبلية قطعناها في طريقنا إلى أريحا. توقفت القافلة التي كنا قد انضممنا إليها حين رأت جموعا غفيرة من الناس، تقدر بالمئات، وقد اتخذت من ذلك المكان البائس موطناً لها بالقرب من مجرى عين ماء نقية تجري بغزارة. كان الكثير من المهجرين الذين لجأوا إلى مناطق رام الله ونابلس والقدس قد شعروا بالبرد كما شعرنا، واتخذوا قرارهم بالفرار من برد الجبال إلى دفء منطقة الأغوار، دون أن يكون لديهم وعي بما توحي به أجواء تلك المنطقة من فراغ وضياع وبؤس.

فعل الأهل مثل ما فعل غيرهم من الناس الذين سبقونا إلى عقبة جبر، جمعوا بعض المعادن وقطع الخشب القديم شبه المتعفن من منطقة البحر الميت، دقوا عدداً من الأوتاد في الأرض، لفوا حولها ما كان لديهم من قماش وبطانيات قديمة، وعزلوا أنفسهم داخل مكان بلا سقف، أو باب، أو مرافق صحية، متخذين من الأرض بساطاً، ومن السماء لحافاً. لم يكن باستطاعة العبد أبو ربيع ورفاقه أن يحملوا الشادر من جفنه لثقل وزنه، ولذا باعه الوالد واستخدم ثمنه في شراء الخبز والزعتر وبعض الجبنة. كان البيت الجديد أشبه بحظيرة حيوانات جار عليها الزمن، ورماها القدر في مكان مهجور بعيداً عن الخضرة والهواء النقي وكل عطر ولون وطير يذكرهم بالبيت القديم والوطن الحبيب، أو حتى بالعالم. أما الزوابع الرملية فقد كانت هي الشيء الوحيد الذي لا يتوقف عن النشاط والعربدة، خاصة في أشهر الصيف الحارة... كانت زوابع الغبار الحارة المحملة بالتراب وفتات الحجارة الصغيرة تَهُبُ على المنطقة باستمرار، تؤذي العيون وتخدش الوجوه وتحبس الأنفاس. ولذا كنا كلما وجدنا أنفسنا في وجه إحدى الزوابع على حين غرة نجلس على الأرض، نغمض أعيننا بإحكام، نحبس أنفاسنا تماماً، نضع أيدينا حول آذاننا ونغلقها، ثم نضع رؤوسنا بين أرجلنا وننتظر حتى تمر العاصفة بسلام. إن من طبيعة تلك العواصف أن تدور حول نفسها فيما تتحرك ببطء إلى الأمام، وكلما تقدمت خطوات كلما ازدادت شراسة وجمعت المزيد من التراب والقاذورات من أوراق ونفايات، تحملها معها لتوزعها بشكل غير عادل على الأكواخ والبيوت والشوارع التي تمر عليها. 

في المقابل، كانت هناك قناة ماء عذب، بُنيت خصيصاً لنقل المياه من أعالي الجبال من منطقة جبل قرُنْطُل الواقع إلى الغرب من أريحا وإيصالها إلى مزرعة مشهورة بموزها الريحاوي الذي امتاز بصغر حجمه ولذة طعمه ونكهته المميزة. أما مزرعة الموز تلك، فكانت تقع في وسط المسافة بين عقبة جبر والبحر الميت، تعود ملكيتها لإحدى أسر عائلة الحسيني، تلك العائلة التي استولت على مساحات واسعة من أراضي فلسطين حين كان زعيمها الحاج أمين الحسيني مسئولاً عن أراضي الوقف الإسلامي. وهذا جعل تلك القناة وماءها العذب الشيء الوحيد الذي جعل الحياة الإنسانية ممكنة في ذلك المكان الصحراوي البائس. كانت المياه تأتي من نبع عرف باسم "عين الكلب"، يقال أن الله فجرها إكراماً لنبيه موسى الذي طلب من ربه أن يمده بالماء والسمك كي يحافظ على حياته وحياة كلبه. 

تقول الرواية المتداولة بشأن هذه العين أن النبي موسى وجد نفسه في مكان مهجور في أعالي جبل قرنطل ومعه كلبه الوفي يتلوى من الجوع والعطش، ما اضطره لطلب المساعدة من ربه. وعندها أمره الله أن يضرب الأرض بعصاه، ومن تلك الأرض الطيبة تفجر الماء وامتلأت العين بالسمك فشرب وأكل كلبه حتى شبع، ما جعل تلك العين تغدو معجزة من معجزات موسى. لكن الكتب القديمة ومن بينها التوراة تقول إن موسى لم يدخل أرض فلسطين التي وعد الله بها بني إسرائيل، وأنه مات في الأردن قبل أن تطأ قدمه الأرض المقدسة. مع ذلك، يوجد بالقرب من أريحا، في حوالي منتصف الطريق بين مدينتي أريحا والقدس، مقام اسمه النبي موسى، في داخله قبر يعتقد الناس أنه يحتوي على جثمان ذلك النبي، ومن حوله جامع وساحة كبيرة جميلة. وكغيره من أنبياء الله الذين يُعتقد بأنهم ماتوا ودفنوا في فلسطين، مثل النبي صالح والنبي روبين والنبي إبراهيم، يوجد للنبي موسى موسم سنوي، يذهب الناس فيه لزيارة ذلك المقام، وهناك يتبركون بالنبي، ويقومون بتقديم النذور عن أرواح موتاهم، ويدعون ربهم أن يشفيهم من الأمراض وأن يرزقهم ما يشتهون من أولاد ومال وغير ذلك، ويقيمون أسواقاً شعبية مؤقتة وملاهي، يحتفلون بتطهير أطفالهم، يرقصون ويسهرون الليل مع حفلات الغناء واللهو البريء.  

لكن على عكس ما توحي به الحكايات القديمة والأساطير الشعبية، تقول بعض كتب التاريخ أن القائد صلاح الدين الأيوبي اخترع حكايات الأنبياء المدفونين في فلسطين مثل النبي صالح والنبي روبين، وحدد مواسم لزياراتهم، من أجل تجميع المسلمين في فلسطين في الأوقات التي يتجمع فيها المسيحيون للاحتفال بأعيادهم الدينية. كان صلاح الدين مفكراً سياسياً وقائداً عسكرياً عبقرياً عمل على حشد جموع المسلمين وتوحيد قلوبهم بخلق مواسم مقدسة، من أجل صد هجمات الصليبيين الذين دأبوا على إرسال الحملة تلو الأخرى محاولين الاستيلاء على القدس واستعادة الهيمنة على الأراضي المقدسة. لذا يلاحظ المراقب أن مواعيد الاحتفال بزيارة قبور الأنبياء كانت تصادف مواعيد الاحتفال بالأعياد المسيحية بهدف ردع الصليبيين وإضعاف احتمالات قيامهم بشن حرب ناجحة ضد المسلمين. كما قام صلاح الدين أيضاً باختراع وسيلة اتصال صممها خصيصاً لحرمان الصليبيين من فرصة أخذ المسلمين على حين غرة. وحيث أن غالبية الحملات الصليبية كانت تأتي عن طريق البحر، فإن صلاح الدين أمر بإقامة مقام لولي من أولياء الله على رأس كل هضبة فلسطينية مشرفة بدءا من ساحل البحر الأبيض المتوسط وحتى أعالي الجبال. كما أصدر تعليمات محددة لحراس تلك المقامات توجب قيام حارس المقام الأول بإشعال نار حال رؤيته بوارج الصليبيين تقترب من الساحل، وقيام حارس كل مقام على تلة تالية بإشعال النار كلما رأى النار تعلو قمة الهضبة السابقة. وهكذا كانت تصل أخبار الهجوم الصليبي المتوقع قبل حدوثه، ما جعل بإمكان المسلمين التواصل بسرعة، والتجمع ومواجهة العدوان قبل استفحال الخطر وقيام الغزاة باحتلال الأرض وتحصين مواقعهم.

بعد مرور حوالي السنتين على وصولنا إلى عقبة جبر، جاء موظفو وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين إلى ذلك المكان البائس، وقرروا بعد أن فاجأهم منظر آلاف الأكواخ السكنية القذرة والأحوال المعيشية السيئة، إقامة مخيم هناك. كانت أكواخ عقبة جبر ربما أسوأ جيتوات (Ghettos) يعرفها التاريخ الحديث، وكانت ظروف الحياة أكثر قسوة من ظروف حياة أجدادنا الأوائل الذين عاشوا متنقلين بين قحل الصحراء ووحشية الأدغال، يعانون ندرة الغذاء وانعدام العناية الصحية، وفقدان الأمن بكافة أشكاله. وبالفعل بدأ العمل في إقامة أكبر مخيم للمشردين الفلسطينيين في ربيع عام 1951، على ما أظن، وذلك لأن وكالة الغوث كانت قد أُسست بقرار من الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة في شهر ديسمبر كانون الاول عام 1950، أي بعد مرور سنة تقريبا على قرار 194 الذي قال بوجوب عودة اللاجئين إلى منازلهم وتعويضهم عما عانوا من خسائر وآلام. وما كاد يكتمل المخيم حتى كان عدد سكانه قد تضاعف أكثر من مرة ليتجاوز العشرة آلاف شخص. ولحسن الحظ، حصل العبد أبو ربيع على وظيفة في مشروع إنشاء المخيم، مكنته من الحصول على دخل متواضع كنا في أمس الحاجة إليه، وذلك إضافة إلى خيمة في مكان مرتفع نسبياً، بالقرب من قناة الماء التي كانت تجري خلف خيمتنا مباشرة. وهناك، في مخيم عقبة جبر فقدنا أحد أطفالنا... فقدنا محمد خير الذي لازمه المرض واليأس على ما يبدو منذ أن رمته أمه في عربة هاربة من قرية بيت نبالا تحت وابل من قذائف المدفعية... مات محمد خير بعد قضاء شهرين تقريباً في مستشفى في القدس. كانت والدته تركب عربة نقل محملة بالأغنام، وتجلس بين الأغنام لمدة ساعتين خلال كل رحلة لزيارة طفلها في القدس، فيما كانت حاملاً بطفل آخر. أما منتهى فقد تغلبت على ما أصابها من ضعف ومرض، وغدت بعد عقود جدة للعديد من الشباب والشابات الجامعيين. 

يبدو أن ثلوج جفنه وبرد شتاء رام الله والقدس وأمطار نابلس غضبت حين غادر المهجرون بلادها، ولذا رفضت أن تترك الهاربين من دون عقاب، فقبل أن ينتهي فصل الشتاء في ذلك العام سقطت الثلوج في منطقة أريحا وعقبة جبر لأول مرة في التاريخ، وربما لآخر مرة. ففي ليلة من ليالي ذلك الشتاء القارص، وقبل أن تمر بضعة أشهر على وجودنا في المخيم، استيقظنا في أواخر الليل على حدث غير عادي... استيقظنا على سقوط خيمتنا فوق رؤوسنا بعد أن عجزت تلك الخيمة المسكينة عن تحمل عبء الثلوج الثقيلة التي تساقطت فوقها. تسللنا من تحت الخيمة بسلام، وقفنا إلى جانب جثتها وهي ترقد هامدة على الأرض، نرتجف من البرد، مستسلمين للمزيد من الثلوج، نتطلع حولنا فلا نجد بيتا نأوي إليه، ولا حائطاً نحتمي به، ولا مظلة تغطي رؤوسنا، ولا بطانية نلف بها أنفسنا ونستمد منها بعض الدفء. ومع سقوط معظم الخيام فوق رؤوس ساكنيها، شعرنا بِأن الحياة قد توقفت تماماً... لم نعد نسمع صياح أطفال أو صوت مؤذن أو حتى دعاء شيوخ أو نساء، كان الكل يرتجف صامتاً خائفاً وكأنه ينتظر الموت. لكن الثلوج توقفت عن التساقط قبل طلوع الشمس، وتبخرت بسرعة بعد أن اعتلت الشمس وسط السماء وفتحت عينها الواسعة. يبدو أن الشتاء أراد مداعبتنا فقط، وأن القدر أراد أن يُعلمنا درساً قاسياً لا يُنسى، ويثبت لنا أن من الممكن أن تكون التعاسة بلا حدود، وأن تكون معاناة الكهولة وعذابات الطفولة واقعاً تتجاوز قسوته حدود الخيال.

 


Deprecated: Directive 'allow_url_include' is deprecated in Unknown on line 0