الشتات - الحلقة الرابعة عشر " طرزان في غابة نخيل"

الشتات - الحلقة الرابعة عشر
الكاتب: 

الدكتور محمد ربيع

كاتب وشاعرومفكر - واشنطن دي سي
الخميس, نوفمبر 4, 2021 - 13

بعد أن انتهى العمل في تشييد مخيم عقبة جبر، وجد العبد أبو ربيع نفسه مجدداً من دون وظيفة ومصدر دخل. وفي ضوء استمرار حالة البؤس والتعاسة التي خيمت على حياة الناس في ذلك المكان، قرر الوالد القيام بمغامرة والذهاب إلى الأردن بحثاً عن عمل هناك. صحا في أحد الأيام في الصباح الباكر كعادته، حمل على ظهره "بقجة" صغيرة تحوي بعض الملابس، واتجه نحو أريحا، ومن هناك ركب سيارة أجرة تعمل على خط أريحا عمان إلى مدينة الشونة الواقعة على الضفة الشرقية لنهر الأردن. نزل في الشونة وسار على قدميه ساعة حتى وصل إلى حيث يعيش عرب العدوان... تلك العشائر البدوية التي تَعرَف الى قصصها وتاريخ غزواتها وأسماء شيوخها من أخته حليمة البدوية. وحال وصوله إلى بيت أحد شيوخ العشيرة الذي وصفته حليمة بالكرم والنخوة، قدم نفسه للشيخ، وأخبره عن سبب زيارته... رحب الشيخ بضيفه بحذر، لكنه أبدى إعجابه الشديد بالضيف حين أدرك مدى معرفته بتاريخ عشيرة العدوان وأفخاذها وأنسابها. لكن العبد أبو ربيع لم يخبر مضيفه عن مصدر معلوماته، ولا بقصة حليمة البدوية طبعا، ولا بمكان وجودها، ولا بعلاقته بها. 

قام المضيف بعد ذلك مشكوراً بدعوة ضيفه للغداء في ديوانيته، ولكن حين حان موعد الغداء، كان طبق الأكل هو المنسف البدوي المشهور، والذي يُحضَر من الرز واللحم والسمن البلدي والجميد، أي اللبن الجامد. وما أن وصل المنسف حتى شمر الحاضرون عن سواعدهم وبدأوا في تناول الطعام مستخدمين أياديهم كالعادة، لكن العبد أبو ربيع الذي تعود على استخدام الملعقة لم يحسن استخدام يده، ولذا بدأ المرق يسيل من يده ويتساقط أمامه كلما تناول لقمة من الأكل. وفيما كان يحاول جاهداً تناول لقمة من المنسف من دون أن يسيل السمن من يده، سمع أحد أبناء العشيرة يهمس في أذن جاره قائلا: "لعن الله أبو الفلسطينيين، باعوا أراضيهم ونسوا تراثهم، حتى أيديهم لا يحسنون استخدامها". صعق الوالد حين سمع ما قاله ذلك الرجل الجاهل، لكنه لم يعلق بكلمة واحدة، بل نهض من مكانه على الفور، استأذن المضيف، انسحب بهدوء تاركاً معدته تتلوى من الجوع، وعاد إلى حيث أتى حزيناً على حالة أمته، مكسور الجناح، وأقسم أن لا تطأ قدمه تلك المنطقة أبداً. سار أبو محمد ربيع مشياً على الأقدام من بيت مضيفه إلى الشونة، وهناك ركب سيارة أجرة إلى أريحا، ثم تابع سيره مشياً على الأقدام إلى مخيم عقبة جبر، ليصل البيت في ساعة متأخرة من المساء مرهقاً، يعاني الجوع والعطش والإحباط

بعد عودة العبد أبو ربيع من رحلته غير الموفقة إلى عرب العدوان في غور الأردن، بدأ عملية البحث عن عمل يتناسب ومؤهلاته ويستطيع من خلاله استغلال ما كان لدية من معارف ومواهب وخبرات في الزراعة. لذا قام بزيارة مدينة أريحا على مدى أسبوع كامل، قضاه في التجول في بساتين المدينة ومزارعها والتعرف الى أصحابها أو من يديرها. وفي ختام زيارته، قرر الوالد أن يعود لممارسة التجارة في الفواكه والخضروات، أي إعادة تجربة جفنه مع العنب التي مر بها بنجاح قبل عامين تقريباً. وهناك، في سوق أريحا، تعرف على عدد من المزارعين والتجار ومديري المزارع والبساتين في المنطقة، كان من بينهم السيد أمين الغوري الذي عمل مديراً لأعمال أحد أبناء عائلة الحسيني، من بينها بستان كبير يقع في منطقة الصحراء الممتدة بين عقبة جبر ونهر الأردن. إلى جانب ذلك، تعرف أبو محمد الى بعض المزارعين من أبناء أريحا الأصليين... أولئك الناس الطيبين الذين أحبهم الوالد كثيراً واتخذهم أصدقاء مدى العمر، وقدم لهم خبرته الزراعية مجاناً حتى غادر المدينة مضطراً في عام 1967 في أعقاب قيام القوات الإسرائيلية باحتلالها. وفي يوم من الأيام، وفيما كان أبو محمد ربيع يشرب فنجان شاي مع السيد الغوري، أخبره الرجل عن بستان الحسيني الكائن في منطقة الغور على بعد ثمانية كيلومترات تقريباً من مخيم عقبة جبر، ودعاه لزيارة البستان، مبدياً رغبته في التعرف الى رأي الوالد في أحوال الأشجار والاستفادة من خبرته. 

ذهب الوالد بعد يومين إلى بستان الحسيني لزيارة صديقه والاطلاع على أحوال البستان وما فيه من أشجار وثمار وخضروات، وهناك قابل مالك البستان بالصدفة... كان المالك قد توقف في البستان لمتابعة بعض الأعمال الإدارية والمالية مع وكيل أعماله، وذلك في طريق عودته من عمان إلى القدس. كانت مفاجأة أبو محمد كبيرة للغاية حين رأى البستان... غابة نخيل كثيفة وجميلة، وكروم عنب مثمرة ليس لها مثيل، ترويها بئر ارتوازية. إلا أن أبو محمد لاحظ أن غالبية أشجار البستان وأعشابه كانت تعاني الذبول، وذلك بسبب ضعف العناية بها وعدم ريها منذ أسابيع. سأل أبو محمد السيد الغوري عن سبب عطش الأشجار وذبولها، وعما إذا كان ذلك يعود لكسل العاملين في المزرعة أم لعدم توفر المياه. أخبره المالك أن الموتور، أي المضخة المركبة على البئر الارتوازية، تعطلت قبل أسابيع، وأن الخبير المختص لم يستطع إصلاحها، وأنها بحاجة لقطعة غيار لا تتوفر لدى وكيل الشركة في القدس. ومع أن السيد الغوري كان قد طلب تلك القطعة من المصنع في ألمانيا قبل شهر تقريباً، إلا أنها لم تكن قد وصلت بعد. وفيما كان المالك ووكيله يتباحثان في أمور البستان وغير ذلك من أعمال وحسابات، ذهب أبو محمد إلى بيت الموتور لإلقاء نظرة على المكان. وبعد فحص المضخة وجد أنها بحالة جيدة، وأن كل ما كانت تحتاج إليه هو تنظيف الداخل وتزييت المحرك الذي لم يتم تنظيفه وتزييته منذ سنوات. وخلال نصف ساعة، كانت المضخة قد عادت للعمل بكامل طاقتها. 

دُهش المالك والوكيل حين سمعاً صوت الموتور يدق بانتظام، ورأيا المياه تتدفق من البئر بغزارة وتجري مسرعة في كل اتجاه، وكأنها في شوق لعناق أشجار النخيل وتقبيل دوالي العنب. وحين دخل المالك والوكيل إلى بيت الموتور وجدوا العبد أبو ربيع جالساً بالقرب من المضخة، يستمع لدقات الموتور كأنها دقات قلب عشيقة، أو موسيقى روحانية غابت عنه طويلاً... كان يحلم ويتذكر، ويعيش الذكريات الغالية التي افتقدها منذ سنوات التشرد من يازور. كانت مضخة آل الحسيني تشبه تماماً المضخة التي  كانت تعمل في بيارته في يازور، وهي المضخة التي قضى سنوات عديدة من حياته يستخدمها ويجري عليها تجارب أحياناً، ويعتني بها، ما جعله يحبها ويتقن التعامل معها ويحسن الاستفادة منها. وبعد تبادل الحديث مع الوالد لدقائق، والتعرف الى خلفيته وتجاربه في مجال الزراعة وصيانة المضخات، عرض المالك على أبو محمد العمل لديه والإشراف على البستان وإدارة أموره. شكره الوالد على عرضه الكريم ووعده بالتفكير في الأمر، ريثما يطلع بنفسه على حجم البستان وأحواله وطبيعة العمل فيه. وقبل أن يغادر المالك البستان في المساء عائداً إلى القدس، أخبره العبد أبو ربيع بأنه يقبل العرض، ولكن بشرط واحد، أن يبقى "الحاج مسلم" في عمله. لم يمانع المالك في ذلك الطلب، لأن البستان كان بحاجة لأكثر من شخص، ولأن الحاج مسلم كان رجلاً طيباً وذا خبرة بأشجار النخيل وكيفية العناية بها. عاد العبد أبو ربيع من بستان الحسيني في اليوم التالي ليخبرنا بما حدث، وكي يلملم بعض أشيائه وملابسه ويستعد لهجرة البيت والعائلة إلى محطة شتات خاصة... محطة تتطلب عملاً شاقاً وبُعداً عن الأولاد، ولكنها تعد في المقابل بتحسين الأحوال المعيشية، وربما أيضاً بمفاجات جديدة.

كان أول عمل قام به الوالد في طريقه إلى موقع عمله الجديد هو التقاط كلب صغير أعجبه من أطراف المخيم واصطحابه معه إلى بستان الحسيني. وهناك قام بتربية الكلب وتدريبه وأطلق عليه اسم "نَبْهان"، وعلمه حراسة البستان وكيفية التعامل مع زواره من الأصدقاء والغرباء على السواء. كان نبهان يقوم كل مساء، في موعد لجوء سكان البستان إلى النوم، بالدوران حول البستان والتأكد من عدم وجود أي غريب بالقرب من سوره المصنوع من الأسلاك الشائكة. كان موقع البستان في منطقة نائية في وسط مساحة واسعة شبه قاحلة، قد جعله واحة مغرية للبدو واللصوص الذين تعودوا السطو على أملاك الغير ونهبها وعدم التورع عن قتل من يقف في طريقهم من حيوانات وبشر. وبسبب شعوره بالوحدة وشوقه لأصدقائه وثقته بأقاربه، بدأ أبو محمد يستدعي أبناء عمومته للعمل لديه ومساعدته في خدمة الأشجار والعناية بالبستان من أمثال أبو الأمين خليل وأبو السعدي مِقْداد. وبعد أن قبض أبو محمد معاش الشهر الأول، وكان قد تعود على حياة البستان، أمر أولاده بالتفرغ الكامل للدراسة، وبالتالي أعفانا تماماً من القيام بأية أعمال خارج البيت، وأمرنا بإطاعة الوالدة، زوجته العزيزة صبحه، وحذرنا من مغبة عصيان أوامرها أو إغضابها. ومن حسن حظ أبو محمد ربيع أن الحاج مسلم كان خبيرا في تقنيب شجر النخيل وأصول قطف ثماره ومواعيدها، وهي أمور لم يكن أبو محمد يعرف عنها شيئاً.

 حين وصل الحاج مسلم إلى بستان الحسيني في عام 1947، كان يبحث عن شجرة نخيل وصفها له سعوديون زاروا منطقة أريحا على أنها تعطي أفضل أنواع التمور على الإطلاق، ولذا تكبد مشقة السفر من مكة المكرمة حيث ولد إلى أريحا حُباً لشجرة النخيل وعشقا لثمارها. كانت أشجار النخيل المعنية تعطي بلحاً حبته كبيرة وطويلة، ذات لون أصفر صافي بطعم العسل، تسمع لها صوتا "يقرش" كصوت التفاح حين تكظمها، كنت أشرق أحياناً من رحيقها لشدة حلاوته. وحين عثر الحاج مسلم على ما كان يبحث عنه، وجد نفسه يقع في حب تلك الشجرة وحب البستان الذي كانت تسكنه ومذاق النبع الشهي الذي كان يرويها ويحنو عليها. وحين تسلم العبد أبو ربيع عمله في البستان، قام بسرعة بمؤاخاة الحاج مسلم وضمه لأسرته، تماماً كما فعل في يازور مع كل من عمل لدينا من غرباء، وهذا جعلنا نكسب عماً جديداً. كان الحاج مسلم رجلاً بسيطاً للغاية يُحسن التقسيم على الربابة، وكان العبد أبو ربيع يحسن الغناء وذا صوت جميل، لم يورثه مع الأسف لأي من أبنائه أو بناته. وهذا جعلهما يشكلان فريقاً فنياً بدائياً متواضع الإمكانيات، استمتع بفنه ووقته وتراثه وصداقته أكثر مما استمتع به الغير. 

إن موقع البستان في منطقة صحراوية بعيداً عن المدينة جعله مُحاطا بتجمعات صغيرة من البدو الذين كنوا يعيشون أساساً على رعي المواشي. وبسبب اختلاف ثقافة البادية عن ثقافة القرية والمدينة كثيراً، فإن علاقة البستان وساكنيه مع الجيران كانت صعبة. إذ تتميز ثقافة البدوي عامة، وذلك خلافا لثقافة القروي، بكونها لا تعرف الاستقرار، ولا تعترف بوطن أو بحدود سياسية، ولا تكترث لبناء أو عمران، تميل بطبيعتها إلى الشك في الغير، وإلى مناصبتهم العداء أحياناً من دون سبب. كما تتصف تلك الثقافة بسيادة قيم الغزو والنهب، وذات تاريخ شفوي يعتز بسلوكيات ومواقف وقيم وتقاليد تجاوزها العصر حين تجاوز عصر القبلية والبداوة... ثقافة تميل بطبعها نحو الهدم، لا البناء، نحو تدمير ما بناه الغير، وليس نحو تعمير ما يحتاج إلى تعمير، تحبذ الأخذ بالثأر وتعتز بالأنساب، وتمجد تاريخ الغزوات. لهذا كان سكان المنطقة المجاورة لبستان الحسيني من البدو، أو العرب الرحل، يدقون باب أبو محمد في النهار طلباً للماء والفاكهة من بلح وعنب وغيره، ويبيعونه في المقابل لبن المخيض الذي يحسنون تصنيعه، فيما يقومون في الليل بمحاولة استغفاله والسطو على بستانه وسرقة ما فيه من أشياء... كانت المضخة هي الهدف الرئيسي لمحاولات السطو التي كان يقوم بها البدو وبعض العصابات بشكل منتظم.

لبن المخيض هو ما يتبقى من اللبن العادي بعد استخلاص السمن أو الزبدة منه، حيث تتم عملية استخلاص السمن بوضع اللبن في قربة كبيرة مصنوعة من جلد الأغنام، وخضه بانتظام لفترة طويلة نسبياً حتى تتجمع الزبدة وتطفو على السطح، ومن ثم يتم عزلها. وما يتبقى بعد تلك العملية هو لبن المخيض الذي يميل مذاقه إلى الملوحة والحموضة في آن واحد، ويعتقد الكثير من الناس أنه يخفف عطش الإنسان الذي يشربه في ساعات الحر الشديدة. تعودت بسرعة على مذاق ذلك اللبن، إذ كنت أحبه وأشربه بشغف واستمتع بمذاقه اللذيذ. وحيث أنني كنت أقضي وقتاً لا بأس به مع الوالد وبالقرب منه في بستان الحسيني، خاصة في فترات العطل المدرسية، فقد دفعني حبي للبن المخيض إلى التردد على بيوت البدو وخيامهم القريبة من البستان، والجلوس مع أولادهم ونسائهم، استمع لقصصهم وتاريخ غزواتهم وأشعارهم وأغانيهم. وبعد التعرف الى الحاج مسلم وسماع الكثير مما كان لديه عن حياة البدو وتراثهم في الجزيرة العربية، تولدت لدي رغبة في معرفة المزيد عن طريقة حياة البدو وطرق تفكيرهم، ما شجعني على مشاركة الجيران بعض رحلاتهم اليومية المعتادة مع الغنم بحثاً عن الكلأ والماء في صحراء قاحلة قليلة العطاء. وهكذا وجدت نفسي أعيش الحياة القبلية وأطلع على أسرارها ومكنون ثقافتها عن قرب، عمليا بالذهاب مع الرعيان والأغنام إلى الصحارى والجلوس مع البدو في خيامهم ومشاركتهم طعامهم، ووجدانياً مع تلاوة الشعر والسهر مع القمر مُستمعاً لربابة الحاج مسلم وأغاني العبد أبو ربيع، وهي أغان وألحان تعلمها من زميله، أو "خَوِيه" كما يقول عربان الجزيرة العربية. ومع الأيام، تعمقت معرفتي بالثقافة البدوية من خلال التعرف الى مواقف وسلوكيات البدو عامة، خاصة مواقفهم تجاه أغنامهم وجمالهم وخيامهم ونسائهم وأبناء عشيرتهم وجيرانهم من البدو وغير البدو.  

كان البستان حين تولى أبو محمد مسئولية الإشراف عليه يتعرض لمحاولات سطو وسرقة مرة كل أسبوع في المعدل، وهي محاولات كان يقوم بها لصوص محترفون أحياناً، ولاجئون يعانون الفقر والحاجة أحياناً أخرى، وأبناء البادية من البدو الرُحل الذين تربوا على السطو والنهب والسلب كوسيلة للكسب والترفيه عن النفس. لكن نبهان كان يقف لهم دوماً بالمرصاد، إذ كان يبدأ بالنباح بشدة ويركض في اتجاه الخطر كلما أحس بوجود غريب بالقرب من سور البستان أو في داخله. وبعد عدة محاولات سرقة، وخوفاً على حياته ومستقبل أبنائه من بعده، قرر أبو محمد ربيع القيام بتقليد القردة من سكان الغابات، إذ قام ببناء سرير معلق في الهواء بين الشجر، يرتفع حوالي ثلاثة أمتار عن الأرض، كان يخلد إليه كل مساء، يغفو على همس النخيل، ويصحو على شدو العصافير، بعيداً عن عيون الغرباء واللصوص. ربط العبد أبو ربيع ثلاث شجرات نخيل متجاورة شكلت فيما بينها مثلثا بحبال قوية وبشكل متقاطع، ما جعلها تصنع شبكة متينة، ثم صنع من ورق العنب وبعض الأعشاب الجافة، وأكياس الخيش المتوفرة لديه بكثرة فرشة مريحة، قام بوضعها فوق تلك الحبال، لتصبح سريراً واسعاً منحني الفرصة لقضاء ليالٍ كثيرة من عمري بجانب والدي معلقاً في الهواء. 

كان طرازان بستان آل الحسيني يقوم كلما حان موعد النوم بتسلق سلم طويل والصعود عليه إلى سريره حاملاً بندقيته على كتفه، ومن ثم كان يقوم بسحب السلم ووضعه بالقرب منه فوق إحدى أشجار النخيل الثلاثة، ويستسلم للنوم. وفي الصباح، كان يُنَزل السلم أولاً حتى تجلس قدميه على الأرض، ثم ينزل عليه حاملاً بندقيته على كتفه ببطء. وهذا جعل مهمة العبد أبو ربيع في حماية البستان وتأمين حياته سهلة إلى حد كبير، إذ لم يعد عليه سوى إطلاق رصاصة أو اثنتين في اتجاه مصدر الخطر كلما سمع نباح نبهان، أو أحس بحركة مريبة تقترب منه أو من بيت الموتور، كان يُطلق الرصاصات ليس بهدف قتل الأشباح أو اللصوص، وإنما بهدف تخويف المعتدي وردعه عن ارتكاب جريمة السرقة. لكن أبو محمد لم يستطع توفير الأمن لخويه الحاج مسلم بنفس القدر لان مسلم رفض فكرة النوم فوق رؤوس الشجر، إذ كان مسلم، ككل بدوي آخر، يخاف الأماكن المرتفعة كثيراً، ويخشى السير في الظلام والعيش في الغابات، ما جعله يُفضل النوم في بيت الموتور بالقرب من المضخة التي كانت الهدف الرئيسي لمحاولات السطو المتكررة على البستان.

مشوار الذهاب إلى بستان الحسيني والعودة منه إلى مخيم عقبة جبر كان طويلاً ومملاً ومرهقاً، خاصة في أشهر الصيف الحارة، وفي وجه العواصف الرملية التي لا ترحم، ولذا اشترى العبد أبو ربيع حماراً شاباً قوي البنية، اعتنى به وأحبه كثيراً، ما جعل الحمار يُخلص لسيده ويتفانى في خدمته. كان أبو محمد ربيع يقوم كل يوم جمعة، أي يوم العطلة الأسبوعية، بزيارة المخيم وقضاء ليلة مع أفراد عائلته، فيما كان السيد أمين الغوري ينوب عنه  في حراسة البستان أثناء تغيبه. كان الوالد يصل البيت مساء الخميس ويغادره يوم الجمعة بعد الظهيرة عائداً إلى مقر عمله. لذا كانت الوالدة تنتظره كل أسبوع بفارغ الصبر لتقدم له لائحة طويلة بما لديها من شكاوى، كنتُ مصدرها الأساس. لم يسألني العبد أبو ربيع يوماً عن أسباب شكوى زوجته قبل أن يعاقبني... كان على ما يبدو بحاجة لعمل ما يفرغ من خلاله ما يكون قد تجمع لديه من غضب شكلته العزلة والبعد عن الزوجة والأولاد والأصدقاء، وعمقه إحساس عارم بالاحباط بسبب قسوة سنوات الغربة والشتات، وربما أيضاً بسبب مشقة العمل والاضطرار للعمل لدى الغير في ظل ظروف حياتية صعبة. لذا كنت لا أطيق يوم الخميس، وأكره يوم الجمعة لكونه يوم عقاب مقيت لم أشعر في أي يوم من الأيام أنني أستحقه، وكنت أتنفس الصعداء حين أرى والدي وقد اعتلى ظهر حماره وأدار لنا ظهره وسار في طريقه عائداً إلى بستان الحسيني. مع ذلك، كنت أحبه وأشعر بالحزن حين أرى العرق يتصبب من جبينه، وأحرص على زيارته ومساعدته كلما لاحت فرصة من الفرص. لكنني لم أكن على استعداد للخضوع لتقاليد تستهدف تقييد حريتي، ولا الانصياع لأوامر تستهدف حرماني من صداقات بريئة تساعدني على تشكيل شخصيتي واستكشاف كنوز عالمي المختلف نوعاً وكماً عن عالم آبائي وأجدادي... كنت متمرداً على التقاليد والعادات والأعراف المرعية، خلافاً لجميع إخوتي وزملائي في الدراسة. 

 


Deprecated: Directive 'allow_url_include' is deprecated in Unknown on line 0