الشيخ والزهرة - قصة للأديب المنذر المرزوقي

قصة الشيخ والزهرة - للأديب التونسي الدكتور المنذر المرزوقي
الأربعاء, مايو 4, 2022 - 18

الأديب الدكتور - المنذر المرزوقي - تونس 

 

سنصير، في الأمل العظيم، ما نريد

 

      بعد أن ألقيتُ بنفسي في سفرة، ظننتها لن تطول، مررتُ، ذات فجر قان، بقفر على أطراف أرضٍ فلاةٍ. وعند منحدر صخريّ ذي نبات شوكيّ، رأيت زهرةً حمراء ذات خطوط ورديّة، تطلّ بوجه شاحب، بين حجارة ملساء لامعة. تقدمتُ وئيدًا، كي لا أزعج سكينتها، وهي تطيلُ النّظرَ ساهمةً، كأنّما لا ترى. حين اقتربتُ وجلاً ابتسمت إليّ في شحوب وقالت: - كأنّك تريد أن تقول؟
قلت: لا. فقد أنهكني المسيرُ في أرض واسعة قاسية. أريد الثبات في كون يسبحُ يدورُ. 
نَظرتْ مليّا في ثيابي الممزّقة وشعري الأشعث المغبرّ، وقالت: 
  - أمّا أنا فقد أنهكني الثباتُ. عروقي تشدّني إلى أرض جافّة يباب، إلى صخر صلد وشمس حارقة دانية، وأمّا روحي فتريد السّفر. أنتَ ضحيّة قدميك، أمّا أنا فضحيّة نزوة الرياح. 
ابتسمتُ متعجّبا فقالت: 
    -  لقد أخذتني ريحٌ عاتيةٌ بذرةً من حقول المُرتفعات المُخصبة المُطلّة على ضفّة نهر عظيم. ثمّ طوّحت بي في الأجواء العالية، في رحلة طويلة رائقة. مررت بالجبال الشامخة، وأطللتُ على الأنهار الهادرة والغابات الواسعة. ثمّ ارتفعتُ أيّامًا، فجاورتُ السّحاب والضباب وتطلعتُ إلى النجوم اللاّمعة. وذات يوم سكنت الرّيحُ فجأة، فهويت من الأعالي إلى هذه الأرض القاحلة، لأسكن شهورا بين الحجارة القاسية. 
      أخذت الزهرةُ الشاحبةُ نفسًا عميقًا، وقد بدت على أطرافها ارتعاشة ونزّ منها عرقٌ غزيرٌ. تنفست ملء قوامها المنهك ثمّ قالت:  - لبثتُ زمنا في الظلام، ثمّ هطل مطرٌ أرسل جذوري إلى الأرض ورأسي إلى السّماء. أحسست بسعادة الولادة والكشف. ثمّ دبّ، مع تتالي الأيّام الرتيبة، الضّجرُ إلى نفسي الفتيّة. إذ لم أجاور غير الأشواك، ولم أر من الكون الفسيح إلاّ تتابع الليل البارد والنهار الجحيميّ القاسي. 
    انتظرت أن يلتهمني أرنبٌ بريٌّ أو غزال شاردٌ.. أن تدوسني أقدامُ عابر تائه، أو أن أُقطف لأعيش أيّامًا بلا جذور، في مزهريّة من زجاج. لكنّ شيئا من الأحلام والكوابيس لم يحدث. فقد أخذت الأيام والشهور تتتالى بشكل رتيب، حتى شاخت روحي ويئستُ وبدأ اليبسُ يصيبُ جسدي وأطرافي، فذويتُ. وعمّا قريب أهوي بين الحجارة، لأُوعد ببعث جديد في ذات المكان الذي قتل روحي. فأيّة سعادة جنيتها من حياتي هذه؟ وأيّ مصير سأدركه، وحيدة في قفر يباب، في حياتي الموعودة القادمة؟ 
      لم تمهلني الزهرة  حتّى أجيب. أنفاسي تتقطع مثلها، ولا أجد في جسدي ما به أقوى على الكلام. جثوت حذوها. حاولت أن أستمهلها لأقول، لكنّها استجمعت قواها وقالت: - ارحم غربتي أيّها الغريب مثلي. خذني بعيدا. فقد استوحشتُ المكان. خذني إلى بلاد أبتسم فيها للشمس، ولا أخاف أن تحرقني. إلى وطن أصافح فيه الفراشات، ويلثمني النحل، وأحاور فيه النسيمَ والرّذاذَ والطّيرَ والعابرينَ، ولا أخشى أن يسحقني فيه أحدٌ. ها أنا ذي أغمض عينيّ واستسلم للسكينة. اقتلعني. ولا تترك بُذوري بين الأشواك الجارحة والحجارة الصّماء والوهج العقيم، لأموت وحيدةً في كابوس اليُبس، وأبعث غريبةً في آتون اليأس. 
       حين دنوتُ أكثر وهممت بإجابتها، كانت الزهرة الحمراء ذات الخطوط الورديّة، قد استسلمت للسكينة والصّمت. كنت أودّ أن أخبرها عن وحدتي أنا أيضا. وحدة أخرى بين أهلي وأمثالي من البشر. كنت أودّ أن أخبرها عن سبب انفرادي، عن مغادرتي للقافلة في صحراء بلا دليل، ونزولي من السفينة في العاصفة، بلا وجهة. أن أقول لها أن غربتي أقسى، لذلك غادرت لأكون مُنفردا مثلها، مُكتفيا بذاتي، واحدًا بلا شبه أو مثيل، تائهًا بلا رفاق، مُسافرا بلا مقصد أو دليل. 
        لكنّ الزّهرة الوحيدةَ الذّاويةَ لم تسعفني لأقول، فقرّرت استعادة السّبيل. حاولت المغادرة، لكنّي لم أستطع تجاهل نداءَها، لأتركها وأمضي. انتزعتها مُترفّقا. وضعتها في جيب سترتي، قريبا من صدري. ولمّا لانت أطرافها وأرخت رأسها قريبا من قلبي، قلت لها: لقد هجرتُ لأكون وحدي، فمن الذي ألقاك في طريقي؟ لقد أردتُ أن يكون الدّربُ لي.. أن أسلك وحيدا صابرا زاهدا في دنيا دنيئة، لقد درّبت قلبي على الصبر وجسدي على الكفاف وروحي على التحليق والوحدة. فلماذا تبعثرين أفكاري؟
       نعم، تدرّبت على الموت، طويلاً. أردته خفيفًا بلا جنازة ولا مُودّعين.. أغيبُ طيفًا في غمام بلا خشوع أو دموع. درّبت نفسي على الموت، لكنّني كنتُ المائت الذي لم يمت. وفي تلك المساحة الضيّقة بين الموت والحياة، كنت أحاول أن أكون. إذ كان يجبُ عليّ أن أموت، وأن أبعث في كلّ مرّة، كي أصير أنا أو بعضا منّي، بأن أتخلّص، في كلّ موتة، من بعضي.                                                                                         
       آهٍ يا زهرة المُرتفعات الخصبة في هذا اليباب، كم نحن أغرابٌ. وكم نحن أمثالٌ في الضياع. أنا أيضا تركت أمثالي إلى طريق بلا وجهة، أردته أن ينتهي بي إلى ما أريد.. وحين وصلتُ إلى هذا المُنتهى في الخراب الأخير. أردت ترتيب نهايتي بما يليق بي، غير أنّ البداية المتاهة كانت تسخر منّي، وتشدّني إلى الزمن الدائريّ والعود الأبديّ. وها هي الحياة الماكرة تلقي، في حقول الرّوح العطشى، بذار الخفقةِ القادمة؟
     آه يا زهرتي الذّاوية.. هيّا بنا نستأنف المسير، لنسلك ما تبقى من الطريق نحو ما نريد. سنسير حتّى ندركَ مكانًا يسعُ جسدي وجذورَك ويتّسع لأحلامي وأحلامك. ستكونين زهرة بُستاني. سأجعل لك حوضًا من تراب سخيّ. ستزورك الفراشاتُ من كلّ لون. لن تشعري أبدا بالوحدة والملل، في مرتفع تُطلين منه على البحر والغابات والسّهول. سأزورك كلّ صباح باسمًا، وأودّعك كلّ غروبٍ، عطوفًا حانيًا. فلا تخافي يا صغيرتي 
   أمّا إن أدركني الموتُ قبل الوصول، فسأجعلُ من صدري المثخن بالأحلام المُغتالة قبرك. سيكون جسدي حوضك وحضنك ومنبت بذورك المنبعثة قهرا للموت. فلا تحزني يا زهرتي. كنتُ مُسافرًا دون وجهة أو دليل. أمّا الآن فقد أدركت أنّك وجهتي ودليلي. وها نحن نسير. ها نحن نمشي على شوك الطريق إلى نور الرّبيع. فابتسمي يا زهرتي الغافية.. ابتسمي لجمال الشوق في الحلم الجليل. ابتسمي.. فها نحن نرقى مُرتفع الرّجاء آملين.. ابتسمي.. ها نحن نسير.. كي نصير في الأمل العظيم، ما نريد.

 


Deprecated: Directive 'allow_url_include' is deprecated in Unknown on line 0