أهدت لى الكاتبة الاعلامية المبدعة فاطمة غندور كتابين من أجمل الكتب ، أعادتنى بهما الى زمن روائع الكتب وأمجادها،الكتاب الأول من اعدادها ويحمل عنوان " محمد الزواوى متعة السخرية " ،والزواوى من رسامى الكاريكاتور ليس فى ليبيا فقط بل على المستوى العالم العربى ،وعلى المستوى العالمى إذا أخذنا فى الاعتبار انطلاقاته نحو الحرية وثباته على المبدأ .
فالزاووى كما تنقل الكاتبة عن عبد الحليم حمود فى كتابه " الكاريكاتور العربى والعالمى " هو صاحب مقدره هائلة فى رسم لوحاته، ينفذها بكل الشروط الاكاديمية ، فيعالج الكتلة والظل والنور ، ويسجل أدق التفاصيل ، ويرسم جمهور كرة القدم ، فى "الاستاد" فانهُ لايهمل أى تفصيل ، فى وجووهم وتعابيرهم وحركاتهم بحيث يشعرك ان الوقت قد توقف عنده ، فهو ينتج الرسم الواحد فى ساعات ، أما فى رسومه الملونة فالدهشة أكبر وأكبر .
ورغم ما أبحرت به الاعلامية غندور فى مقدمتها بوقائع ثلاث جمعتها بالفنان ثم مختاراتها مقالات وقراءات ،مثلت سيرة نصف قرن للرسام الكبير ،ومواقفه ،الا أن مااستوقفنى واخذنى بل وهزنى بشدة، لقطة تصور ما يحدث فى عالم الديكتاتورية من كواليس مفزعه ومرعبة ..
فمع غياب الابن(ابن الزواوي) خلف جدران السجون سنوات حكم القذافي، واستحالة الام لقاء الابن أو مجرد رؤيته ومن ثم عقد حديث بينهما ، نجحت تلك الأم الحنون وبصعوبة، بالتوصل الى صفقة تقضى بنودها تسليم الطعام كل جمعة الى الحراس الذين يتولون مهمة تسليم الوديعة الى صاحبها بالإنابة ، ونستطيع أن نتخيل ما الذى يمكن ان يعنيه هذا الطقس الاسبوعى لانسانة هى أم ، إنه بالنسبة لها ليس طعاما ولكنه خطاب، ونستطيع أيضا أن نتخيل أى نوع من الخطاب سيكون عندما يوجه لابن يقبع وراء حجاب،ما يكشفه الروائي ابراهيم الكوني في مقالته بالكتاب ، انه هنا رسالة وليس طعوما . انه ايضا وصية مجبولة بحنين ميتافيزيائى يقينا ، وهى تراجيديا سوف تضاعف نزيف الآب حتما لانه لا يستطيع ان يضع حدا . وسوف تكتسب المأساه بعدا كلاسيكيا عندما تكتمل القصول فى كلمة العبث بعد سنوات من هذه الصلاة الاسبوعية ، لتعلم الاسرة ان الطعوم التى كانت الام تدس فيها للابن السجين قلبها الدامى لم تصل للابن ولا مرة واحدة ، ولكنها تسقط لقمة سائغة فى بطون سجانيه . والسبب ؟ معرفة السبب كان قارعة اسوأ من الجهل بالسبب لان السبب ببساطة كان غياب الابن ؟ أى غياب يستطيع الابن أن يغيبه أكثر من غيابه وراء القضبان ؟ أى غياب يستطيع السجين أن يغيبه فوق غيابه عن أنظار الأبوين ؟ بلى بلى ! فى جعبة القدر دوما هاوية أخرى تستطيع أن تخفى حتى السجين وتغيبه عن الآنظار ! . لقد غيب القدر الابن فى الجب بعد أن غيبه فى غياهب السجن ، كأن السجن ليس مثوى كافيا لتغييب أموات نظنهم على قيد الحياة ، لقد شاءت الاقدار ان تحيى سجينا فى عداد الاموات ، فدفعت به الى المنفى الوحيد الذى يجعل من السجناء طلقاء بتحويلهم من موقعم كسجناء الى موقعهم كشهداء ! . بلى ! استشهد الابن فى احداث سجن ابى سليم الذى راح ضحيته ما يربو على 1270 سجين فى تمرد تكتم عليه النظام أعواما قبل أن تتكشف حقيقة هذه الجريمة . هذا النبأ الفاجع لم يكتف بأن يجعل من السجناء شهداء ، ولكنه ثنى فجعل من أهل الضحايا شهداء ، وكان للزواوى شرف الانضمام الى هذه القافلة ليصير أيضا شهيدا ، وان ظل رمزيا على قيد الحياة . لم لا اذا كان أنبل الشهداء قاطبة هم الشهداء على قيد الحياة ؟.
ويضيف الكوني في قراءة فلسفية حكيمة ،كأنى بالزواوى يجسد شاهد المجهول الذى يراقب فصول المهزلة من وراء حجاب ، فهو ليس كاهن المهزلة وحسب ، ولكنه حكيم الزمان ايضا
ويربطنا بتاريخ الكاريماتير العالمي في نسخته الامريكية : فمن من جيلنا يستطيع أن ينسى شخصية مثل " كاوكى " ، أو الدمية الامريكية الاخرى " لون نول " انهما دميتان لهما حضور فى حوليات الزواوى المؤرخ رغم غيابهما من ذاكرة جيل تلك الأعوام ، فكيف بجيل هذه الآيام ؟ .
الابحار التى قادتنا فيه غندور من مقدمتها التي تبرز لماذا الكتاب الأول عن وحول الرسام العبقري الزواوي؟ ، ثم في مختاراتها الرصينة التي هي سجل موثق بأراء وقراءات عدة تفيد المهتم والباحث ، ما يجعلك تعيش وتتعايش مع الكتاب وتقرأه فى نهم، وتعيش كأنك أحد مفرداته وأن سيرته سيرتنا،لقرب هذا الفن من الواقع والجمهور ،هذه السيرة التى تناولته بحق وحقيق ،لسنا فيها مجرد قارىء .
اما الكتاب الثانى الذى أهدته لى الكاتبة الاعلامية فاطمة غندور فهو يحمل عنوان ومحطات مؤثرة فى سيرة أديب عظيم ومأساته وهو " صورة نجيب سرور " للكاتب الاستاذ عبد العظيم قباصه ،ويستحق هو الآخر أن يُنشر عنها فى مقال منفرد ساشرف بنشره وعرضه.
إضافة تعليق جديد