ن ما يحدث اليوم في عالمنا من تطورات متلاحقة، يوجب تطوير فلسفة التعليم ومناهج التعليم وطرق التدريس بصورة متواصلة، مع ترسيخ قيم العدالة والمساواة والحرية التي تشمل الحرية الدينية، وحرية العبادة والرأي والفكر والنشاط الاقتصادي، ونشرها في المجتمع على اوسع نطاق ممكن. من ناحية ثانية، كي يقوم نظام التعليم بدور إيجابي في المجتمع، لا بد وأن يكون له جناحين يطير بهما إلى كل مكان، هما: معلومات ومعارف علمية تعكس أحدث ما توصل إليه العقل البشري في مختلف مجالات العلوم الطبيعية والهندسية والاجتماعية والفكرية؛ ومنظومة من القيم وطرق التفكير القادرة على حماية مبادئ العدالة والحرية والمساواة، وتوجيه منجزات العلم والفكر لخدمة البشرية جمعاء.
من ناحية ثانية، تحتاج التنمية المجتمعية إلى أربعة أرجل تقف عليها؛ الأولى هي نظام تعليم وتربية قادر على الاسهام في تطوير الثقافات التقليدية وتحفيزها على تبني قيم الحرية والعدالة والمساواة واحترام الآخر والرأي الآخر؛ والثانية هي مؤسسات علمية قادرة على اقتباس علوم العصر وتطويرها وتراكمها واستخدامها ونشرها في المجتمع، وإيصالها إلى الجهات المعنية بأمور التربية والتعليم؛ والثالثة هي إعادة هيكلة الاقتصاد الوطني على أسس إنسانية، بعيدا عن املاءات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وفلسفة السوق الحر؛ والرابعة هي إحداث تحولات اجتماعية وثقافية عميقة في المجتمع تجعل بإمكانه التعايش مع عصره والتكامل مع العالم الذي يحيط به ويؤثر في حياته من خلال عمليات الاستيراد والتصدير. ومن أجل تمكين الأرجل هذه من السير على طريق التطور العسير، كان لا بد وأن يكون الإطار السياسي الذي يكتنفها قادرا على حمايتها والتجاوب مع استحقاقاتها بتوفير الحرية والأمن والعدالة لجميع أفراد المجتمع.
وهذا يجعل كل مجتمع يتطلع نحو النمو بصورة متوازنة وتشييد نظم حياة عادلة باستطاعتها تحقيق الأهداف الوطنية المنشودة: نظام اقتصادي وطني شفاف يقوم على تعاون الشعب والدولة؛ ونظام سياسي عادل يعتمد الشعب مصدرا لكافة السلطات في المجتمع، ويوفر حرية الرأي والفكر والعبادة لجميع المواطنين؛ ونظام تعليمي وتربوي يساير العصر ويسهم في تطور العلوم والثقافات؛ ومؤسسات مجتمع مدني واعية وفاعلة.
يتطلب كل نظام تربية وتعليم مساهمة البيت والمدرسة والمسجد ومؤسسات الإعلام في عملية التربية. ولما كان معظم الأمهات والآباء في بلاد العرب يعانون أمية تقليدية، أي عدم القدرة على القراءة والكتابة، أو امية ثقافية تشمل ضعف الوعي الذاتي أو غيابه، فإن دور المدرسة والإعلام أصبح أكثر أهمية من أي وقت مضى، خاصة وأن فكر المسجد لا يؤمن بالتطور، وسياسة الإعلام لا تسعى لتوعية الناس بقدر ما تسعى إلى تزييف وعيهم. فالإعلام الرسمي يرى أن مهمته الأساسية هي تزييف وعي الجماهير وإقناعها بأنه ليس بالإمكان أفضل مما هو كائن، والإعلام التجاري يرى أن مهمته الأساسية هي تحقيق الربح الذي يتطلب في العادة تضليل عامة الناس وإضاعة وقتهم وإبعادهم عن القراءة، وجرهم نحو تبني ثقافة الاستهلاك المدمرة على حساب ثقافة الإنتاج التي لا يمكن تنمية الاقصاد الوطني بدونها.
إلى جانب هذا، تحتاج عملية تطوير نظام التربية والتعليم إلى تغيير معظم المناهج الدراسية، وإعادة ترتيب العديد منها بنقل بعض المواد من سنة لأخرى، وإضافة مواد دراسية جديدة تأخذ في الاعتبار حقائق العصر ومتطلبات التعايش معه بسلام، وهذه حقائق تتغير وتتبدل بسرعة عجيبة يصعب معها رصد التطور وتحليل تبعاته على حياة الإنسان والمجتمع ونظم الحياة فيه، ما يوجب النظر إلى العملية هذه بوصفها عملية مستمرة لا تتوقف عن التطور أبدا. وهذا يتطلب تطوير أساليب التدريس، وتدريب المدرسين على فنون التعامل مع الطلبة خلال مراحل الدراسة المختلفة، وتنظيم نشاطات لهم خارج صفوف الدراسة بهدف تعويدهم على العمل الجماعي والعمل التطوعي الموجه لخدمة المجتمع عامة والمحتاجين من الناس خاصة، وتدريبهم على تنظيم أوقات فراغهم بالكيفية التي تمكنهم من استغلال وقتهم بشكل جيد، وتحديد أولوياتهم الدراسية والحياتية والترفيهية.
من ناحية أخرى، تشير تجارب الدول التي سبقت العرب قرونا على طريق التنمية والنهضة إلى أن التعليم المختلط كان من أهم العوامل التي أسهمت في رفع مكانة المرأة في المجتمع وتمكينها من الحصول على حقوقها كاملة بمساواتها مع الرجل في الحقوق والواجبات. إلى جانب ذلك، يسهم نظام التعليم المختلط في توفير ما لا يقل عن ثلث الانفاق الحالي على التعليم؛ الأمر الذي يجعل بإمكان الدولة أن تفتح المزيد من المدارس وتقوم بتزويدها بما تحتاج إليه من كتب ومعدات وأساتذة وغير ذلك من أمور. إن علينا أن ندرك أن الأم تمثل المرحلة التأسيسية في تربية كل طفل وجيل، وكلماتها تبقى الأكثر رسوخا في وعي الأبناء من الأطفال والشباب ما يجعلها ترافقهم أحيانا حتى اليوم الأخير في حياتهم. وهذا يعني أن المرأة التي تتمتع بالحرية والوعي والتعليم تربي جيلا يعتز بنفسه ويعي معنى الحرية والعلم ويحرص على المطالبة بحقوقه، فيما تقوم المرأة المكبوتة الجاهلة بتربية أطفالها على الخنوع والقبول بالمهانة والسكوت على الظلم، لأن قدرتها على وعي معنى الحرية والكرامة يكون ضعيفا. ولهذا كان لا بد وأن يكون نظام التعليم مختلطا من روضة الأطفال حتى نهاية الدراسة الجامعية، مع سماح الدولة بإقامة مدارس خاصة تتيح فصل الأولاد عن البنات في مرحلة الدراسة الثانوية على أن تكون تلك المدارس خيرية غير ربحية.
تمر نظم التعليم في حياتها عبر أربع مراحل أساسية: الأولى هي مرحلة الحكمة المألوفة، وهذه تقوم أساسا على المتوارث من معتقدات وأفكار وتقاليد وعادات وأقوال مأثورة، يشكل الفكر الديني والأسطورة والخرافة جزاءا هاما منها. والثانية هي مرحلة النقل والحفظ، وهذه تقوم أساسا على التلقين، ما يجعل كلمة الأستاذ هي الكلمة الأخيرة التي تمثل حقيقة لا يجوز نقدها أو الشك فيها. والثالثة هي مرحلة النقد والتحليل، وهذه تقوم على نقد الأفكار والمعلومات التي تعرض في صفوف الدراسة، وتحليل ما يمر به المجتمع والعالم من تغير وتطور بوضع تلك الأمور في إطارها التاريخي والإنساني السليم. والرابعة هي مرحلة الخلق والابتكار؛ وهذه تمثل بالنسبة لنظام التعليم مرحلة النضوج، الأمر الذي يمكنه من خلق الجديد من الأفكار والنظريات والعلوم، والاسهام الواعي في تقدم المجتمع.
إن من ينظر إلى الثقافة العربية بعين ناقدة وعقل واعي وضمير غير ملوث بأيديولوجية وخرافات وأساطير سوف يكتشف أن تلك الثقافة لا تزيد كثيرا عن كونها مزيج غريب من ثقافة البداوة وثقافة الاستهلاك وثقافة الرأسمالية التي تقوم على التضليل والاستغلال. ويمكن وصف الثقافة العربية بأنها تتصف بالخشونة والعصبية القبلية والترفع عن مزاولة الأعمال اليدوية والحرفية بوجه عام كمهن الحدادة والنجارة والصيانة؛ وثقافة الزراعة التقليدية التي تتصف بالبساطة والتواكل والميل إلى الايمان بالحظ والنصيب والسحر والخرافات والقضاء والقدر؛ وعناصر ثقافية مستوردة من الخارج تشجع ثقافة الاستهلاك على حساب ثقافة الإنتاج؛ الامر الذي يجعل العناصر هذه تقوم بتشويه الموروث العربي من ثقافتي البداوة والزراعة على السواء. وهذا يعني أن الثقافة العربية بحالها وحلتها الراهنة لم تعد صالحة لأية أمة، ولا لأي زمان أو مكان.
بناء على ما تقدم، يمكن تلخيص أهم المبادئ التي تقوم عليها فلسفة التعليم، والأهداف التي تسعى إلى تحقيقها في النقاط التالية:
1. احترام الوقت وإدارته بشكل يجعله أكثر متعة وإنتاجية.
2. احترام العمل والاخلاص له وللمؤسسة التي يعمل الإنسان فيها.
3. تعويد الطلبة على القراءة عبر كافة مراحل الدراسة، بمن فيها المرحلة الجامعية، على أن يكون الهدف من القراءة هو التوعية بصورة عامة، والحيلولة دون إصبابة أي طالب أو طالبة بعاهة الأمية الثقافية.
4. تربية الطلبة على الإيمان بأن واجباتهم الأساسية هي خدمة أنفسهم أولا، وخدمة مجتمعاتهم ثانيا، وخدمة الإنسانية ثالثا.
5. غرس ثقافة العلم والتعليم في نفوس الطلبة والمجتمع، بناء على المقولة التي تعتبر حكمة من حكم الدهر، "التعليم يبدأ في المهد وينتهي في اللحد".
6. احترام حرية الرأي والفكر والتدين والعبادة، والتعود على الحوار بعيدا عن الجدل، وذلك بهدف التوصل لتوافقات مشتركة، وحل الخلافات بطرق سلمية عقلانية.
7. الإيمان بأن المراجع الأساسية التي يرجع الإنسان الواعي إليها للحكم على الآراء والأفكار المختلفة، بمن فيها سجلات التاريخ ومحتويات التراث هي العلم والعقل والمنطق ومنطق الأشياء والتجربة الإنسانية عبر التاريخ.
إضافة تعليق جديد