الشاعر محمد سليم خريبة يكتب.. حول فطرة فلسفة موسيقى شعرنا العربى ( 1 )

فضاء الرأي
الكاتب: 

عفيفي عبد الحميد

المستشار الإعلامي لموقع المنصة بوست - مصر
السبت, يوليو 11, 2020 - 11

 

 

موسيقى الشعر العربى أو إيقاعاته التى ولدتها البحور الشعرية بِنت لغتنا العربية،

وهى التى حققها أستاذنا الخليل بن أحمد الفراهيدي، يرحمه الله، فأستاذنا الخليل إذًا

محقق ، بالجمع وبالتصنيف ، بعدما ازدهر ينع تلكم النغمات التى أدهشت فطرة

العرب، وأخذت بالأفئدة والمشاعر الطبعية، التى نمت بتنامى التعلق باللغة العربية ؛

تشبثا بما فيها محاسن إيقاعات مفرداتها، والافتتان بجرسها الشجى حينا والطروب

حينا، ومحفزاعلى الولوع بالتماوج الأثير، الناتج من تنويعات مفردات لغتنا العريقة

أحايين أخرى .

فتألق تماوج الوجدان المستجيب لألحان خفية كان يتجاذبه، لكن لم يكن بملك

العربى القديم سلطان الإمساك ببدايات خيوط علم بدايات إدراكها فى حينها البكر،

وإنما آضت فى أنفس عربية ما آضت لتضىء للعربى السبيل إلى بلوغها، ثم براءة

الفطرة ونبوغ الذائقة ، بعشق عواطف عربية ، كانت تلذ لها أحرف الهمس فيها

وأحرف القوة ، وتضاعيف التهيام بأحرف اللين .

فبدأ بذلك التوقيع بأول أحرف الترقيش والتزيين ، والتماس ميس أحرف اللين ،

ثم تبصر الوجدان العربى بما تشى به تراكيب الجمال النغمى، فى كلم المعجم

العربى من مثل جمال أنغام المد التاتجة عن وجوب إطالة صوت لحرف ، خلال

كلمات من مثل:أسْرَى، بمعانيها الأصيلة فى اللغة، وما اشتق من مادة (أ س ر)،

من مثل(أُسارَى)، و( نور ) ، و( نديم، سمير ــ قطوف ــ وجود )، ثم (أفانين ــ

عناقيد ـ مواجيد)، فكان ظهور أبنية لغوية، تزخرفها نهايات الجمل أحرف يتكرر

أيها بنهاية جملتين أو أكثر؛ كى ينشأ تطريز بهيج ، يستولى على أفئدة المتلقين

بالسماع أحايين، وبالقراءة بعض حين، فكان ما عرفه البلاغيون فى علم البديع،

باسم ( السجع ) .

ولسنا بحاجة لإشارة إلى خطباء العرب الأكابر أمثال قُس بن ساعدة وأضرابه

كشهود ؛ بما انتقل إلينا من نثرهم الغنى عن قولنا عنه أو ثنائنا عليه .

وبمولد السجع أخذ انتشاء العربى القديم يزيد فى ترقية هذا الوليد والتيه به ؛

ولوعا به جادا فى العناية به ، فشرع يكتشف الجمال فى لسانه العربي، ويُجوِّدُه

حتى بلغ به ما نعرفه عن السجع وأنواعه التى بلغت"حسن التقسيم"، الذى صار

بعد ذلك من بدائع الاستهلال فى القصيدة العربية بما عرفه علماء العروض باسم

" التصريع"، حيث يأتى روي الشطرة الأولى" العَرُوضَة" بحرف هو هو روي"

الضَّرْب " ، عندما كان مولد الشعر العربي .

فلا نشأة العروض من صناعة العربى، ولا ما سبقه من القريض من فعل العقل

العربي الأول، بل هى من تفتق ذائقة العربي المكتشفة بالفطرة ذلك الجمال الإيقاعى

فى لغتنا لسان أبي البشرية آدم عليه السلام ، ولسان أهل الجنة .

شعرنا العربى ــ فى ضوء ما نرى ــ هو ابن فطرة اللغة العربية، لم تتدخل فى

مولده أيد عربية أو عقول بحثية عربية أو غير عربية، فهو فى مولده ابن شرعي

للغته العربية شأن الشعر فى بلاد لها لغاتها ، التى ولدت إيقاعات الجمال القولى

مبينا بطبيعته فلسفة الجمال فيها، كما فى الشعر الفارسى ابن جارة جزيرة العرب؛

فثم "بحر المستطيل"، الذى هو عكس" بحر الطويل الذى تفعيلاته لشطر التام منه:

"فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن"، فهو بعكسه عند الفرس على وزن"مفاعيلن فعولن

مفاعيلن فعولن"، فمحاولة تمحيص لغة الفرس بتدقيق وحرص تستطيع اكتشاف

تقارب نغمى بين اللغتين، هو الذى أهل لغة الفرس للإتيان ببحر شعرى ، يلاحظ

متأمله فى لغتنا ولغتهم ذلك التقارب الفطرى الكاشف عن أن الفطرة اللغوية أم بيان

المفطورين عليها بالأصالة، لا بزج ولا بتهجين، حتى إن العرب أخذوا عن الفرس

نذرا يسيرا من مفرداتهم، فصارت سيارة على الألسن، واستجاب لها القرآن الكريم،

فأورد منها بعضا نجد فيه إلا موافقة للميزان الصرفى لمفردات عربية فصيحة

أصيلة، لسنا هنا بسبيل حصرها ، لكنا نرى أن سبق لساننا ألسنة الخلق وراء أخذ

غيرنا عنا من كلمنا، وما الفرس وحدهم المثل فى ذلك، فمفتتح القول أنا لا ننظر

بباصرة ضيقة، يؤسس لها توجه ، أو ينحو بها بصر نحو ما وراء القول ، مما

يظنه ظانون غير عدول ، إنما هو المثل ، ليقام القياس والاستدلال على غيره .

فما جاء تنوع بحور الشعر العربي إلا من تعدد الأحوال الدلالة، وعواطف وعى

وبصائر نضجت ، فحفزت على تجلية تنوع البحور الشعري التى هى أم نشأة

المقامات اللحنية فى الغناء موافقة طبع الشاعر حال قرضه قريضه؛ فانفتح بذلك

باب التفسير لعلماء العروض والقافية على ما يمكن استنتاج سبب ولادة قصيدة ما

على هذا البحر أو ذلك، والاستدلال من بحور قصائد على طبقات شعراء أنشدوها

مقرونة بما أتى به قدر تمكن كل شاعر من هؤلاء الشعراء ؛ فليس بملك شاعر

غض أن يجاذف بالإنشاد على " بحر الكامل" أو" بحر الطويل"، أو" بحر البسيط "

أو" بحر الخفيف" ــ مثلا ــ إلا بإنشاد أبيات قليلة العدد فى أندر الأحوال ، وقل أن

تستقيم تلك الأبيات وزنا وإبانة وبيانا .

يبقى القول السيار:" أنتم الناس أيها الشعراء " برهانا على اعتلاء الشاعر العربي

سنام القوة المائزة فى سريان دافعيات الفطرة العربية الباكرة على اكتشاف ذخائر

الوعى ونفائس الجمال فى لغتنا التى تكفل ربنا تبارك بحفظها؛ بحفظه سبحانه كتابه

الأكرم القرآن الكريم فى السطور وفى الصدور .

ويحيا تنوع البحور التى تم اكتشافها والوقوف على طاقات كل بحر منها آية دالة

على جلالة دولة الشعر العربى الأصيل، وجوهر قدر الشاعر العربى الكريم الحر

مظهرا وجوهرا وسمو مكانته فى قومه ، فحق بذلك التعزيز الفطرى المتنامى أن

يكون " الشعر ديوان العرب"؛ بما روى به أيامهم، وما استنبت للقادمين من بكاراته

الحكم، وضرب الأمثال ، فأشاد بالفضائل، وشنع بالرذائل ، وحفز على الخير ، بل

وكشف فيما كشف عما تأباه الفطرة ، وواجه النقائص التى جىء بها شططا ، ولم

يخل ــ كذلك ــ من كشف عن طبُع بعض شعراء خرجوا عن جادة الواجب إلى

المجون؛ فقد رصد الواقع بصدق، ورسم واقع الحياة بوضوح، ييسر على الأبناء

العلم بما كان عليه الأجداد والآباء ، وهيأ السبيل إلى حسن الاستقراء ، دون أن

يستكره على جفوة أو عناء .

شعرنا العربى التليد أصله فخر العربى الحر ، فلا تعوزه معه حاجة إلى التماس

عون من قصى أو دنى ، حسبه فى ذلك ثراء منبته، وسناء عزته، وخلوص ذاته من

الشوائب والمعايب، والعزة للشعراء الذين أحسنوا الانتفاع بإرث الطيب ، ائتمنهم

عليه أوائلهم الذين صانوه لهم إرثا مرضيا عنه ، ودلهم على جلائله أستاذنا

الفراهيدى وتلامذته الذين خلفوه كالأخفش ومن تلوه .

أما ما يتصل بالتجديد فقد تناولت جله مقدمات دواويننا المطبوعة ورقيا فيما بين

سنة 2006م، وسنة 2015م، ودواويننا هى: خلجات صبارة ــ سنا ليلى ــ مقامات

الوجد .

وبديوانينا المطبوعين قبل الدواوين المذكورة إضافاتنا أكثر من بحرين للعروض،

وتفعيلة جديدة وافقت رضاء أحد أعلامنا العروضيين الموسوعيين فى أدبنا العربى

القديم خاصة .

 


Deprecated: Directive 'allow_url_include' is deprecated in Unknown on line 0