الشتات - الجزء الأول نبض الحياة

الكاتب: 

الدكتور محمد ربيع

كاتب وشاعرومفكر - واشنطن دي سي
السبت, مايو 22, 2021 - 23

عشت حياتي منذ الصغر كرحلة شوق بلا نهاية، حملتني إلى أماكن بعيدة ودول عديدة وشعوب مختلفة الثقافات واللغات والقضايا والتركات الحضارية والتطلعات المستقبلية... أمم وشعوب تعيش في ظل أوضاع سياسية وثقافية واجتماعية متباينة، وظروف اقتصادية ومستويات حياتية متفاوتة.. أقمت طالباً وأستاذاً جامعياً وباحثاً في بلاد عديدة وأماكن جميلة، وشاركت في صنع أحداث مثيرة أدخلتني في تجارب فرح ومرح وحزن وسعادة ومعاناة وعذاب وألم لا يطاق أحياناً. كانت هناك تجارب عشتها تحت ضغوط قاسية، وأخرى عشتها في ظل وعود زاهية زائفة، وتجارب مع مذاق متعة لا مثيل لها، ونشوة ألم على طريق شفاء يستأنس طعم الألم. كانت حياتي وما تزال حكاية ولادة وموت وتجدد وأمل وخيبة أمل متواصلة... أمل في حياة مستقبلية حيث يولد الأمل وينمو الحب ويترعرع على ضفاف الخيال، ويُبحر الشوق في بحر هائج بلا ربان، ويتجذر العشق في ثنايا الروح بلا وعي، ويتجدد الفكر ويعيد صياغة نفسه بلا انقطاع، ويختزن الضمير ما يحلو له من تلك المشاعر والتجارب بشغف طفل يتعلم المشي لأول مرة. وكي أعيش حياتي كما يجب أن تكون عليه الحياة، واستمتع برحلتها إلى أقصى حدود المتعة الممكنة، كان علي أن أتمرد على الكثير من الأعراف العائلية، التقاليد المجتمعية السائدة، والأفكار العقائدية الجامدة، ونظم الحكم السياسية المستبدة، والنعرات العنصرية، والقيم الاجتماعية المكبلة للفكر والعقل والحرية.
عشت بداية حياتي ككل طفل يعيش حياته دون أن يفكر في مستقبله، لكن العقل، وكما اكتشفت لاحقاً، يختزن كل شيء ويُعيد استحضاره حين تتوفر ظروف معينة، وهذا ما حدث بالنسبة لي، إذ أعاد العقل الباطن استحضار تجربة سنوات طويلة تحت ضغوط هزيمة عام 1967، وما فرضته أحداث تلك الهزيمة وتبعاتها من مراجعة. إذ فيما كنت أتجول وحيداً في جبال جاتلنبيرج وغاباتها الكثيفة في ولاية تينيسي الأمريكية، أتأمل عظمة الطبيعة واستمتع بروعة حُسنها وشُموخها ورونق أزهارها، وأصغي لهمس الشجر وشدو العصافير، وأتابع غروب الشمس بشوق، شعرت بأن شيئاً ما يتغير في داخلي... شعرت بأن هناك شيئاً غريباً يُولد بهدوء في أعماق ذاتي. كان قراري في أعقاب الهزيمة بعدم التحدث مع أي عربي لمدة أسبوعين على الأقل على ما يبدو هو الصدمة الساكتة التي أيقظت الوعي من سباته العميق، وأعادتني إلى حالة من الوعي لم أختبرها من قبل... صدمة فجرت ينابيع المعرفة الكامنة في أعماقي ودفعتها إلى التدفق بغزارة والصعود إلى الرأس، تاركة خلفها ذاكرة مُشبعة بذكريات تأبى النسيان. 
كان قراري بعدم التحدث مع أي عربي لمدة أسبوعين قد جاء تحت إلحاح الرغبة في التعرف على الأسباب الحقيقية للهزيمة بعيداً عن محاولات التبرير التي يُجيدها العرب عامة، ومن أجل البحث عن وسيلة للخروج من الأزمة بعيداً عن غوغائية العقائدية ولوم الآخر. لقد حملتني تلك الصدمة إلى الماضي البعيد لأتذكر ما فات من حكاية عمري وأحداث طفولتي، وأشاهد فصول تلك الحكاية تعود في صورة خيالات وأحلام يقظة تعيد من جديد تشكيل ما وقع في الماضي من أحداث كشيء حي. شاهدت ذكريات الطفولة والصبا والشباب تعود باكية مبتسمة عاتبة، تمر أمامي شريطاً سينمائياً تراه عيني كأطياف غروب على وجه شمس تستعد للهروب في حضن بحر هادئ، وزهر برتقال وليمون يعطر هواء "يازور" ويغمر البيت من كل جانب، ورائحة زعتر بري يكسو سفوح الجبال المجاورة لمدينة رام الله، وكروم عنب وتين في قرية جفنه وخربة أبو قش وعلى مقربة منها وقد حان قطافها، وخيام لاجئين يعانون البؤس والفقر والظلم تغطي أرضاً صحراوية قاحلة على مشارف مدينة أريحا، وعواصف رملية تداعب خيام البؤس والحرمان بقسوة وشراسة تدمي العيون وتحرق الشجيرات الصغيرة المتناثرة هنا وهناك، وأنوار صاخبة تُغرق شوارع القاهرة وتسرق البصر من المارة وتحجب الرؤية عن الأنظار، وأحلام لا تحدها أحلام يعيشها الناس في ألمانيا وأمريكا.. تذكرت أشياء أخرى غريبة، صغيرة وكبيرة، قال لي والدي فيما بعد أن بعضها وقع قبل أن أكمل الثالثة من العمر. 
كانت تلك التجربة حدثا مهما في حياتي جعلني أدرك أن العقل الباطن لا يختلف كثيراً عن جهاز كمبيوتر يختزن في داخله كل ما يسجل صاحبه على شاشته الصغيرة من ذكريات وأحداث، لكنه يخزنها على شكل صور وخيالات لا تخضع لنظام محدد، إذ يبدو أن العقل يضع ملفاته في أمكنة مختلفة لا تحمل أرقاماً ولا عناوين ولا تواريخ، ما يجعل عملية البحث عنها وإعادة تصفحها صعبة، وأحياناً مُضنية تحتاج لوقت طويل. في بعض الأحيان، نحاول أن نتذكر اسم شخص أو عنوان كتاب أو مكان دون فائدة، لكن، وبينما نغط في نومنا، نستيقظ فجأة على همس داخلي يُذكرنا بما كنا نبحث عنه... ذلك هو دور العقل الباطن، الاحتفاظ بكل معلومة هامة ومساعدتنا على استعادتها عند الحاجة. إن هيمنة العقل الإنساني على نشاطاتنا اليومية وقراراتنا يجعل من الصعب علينا إيقاظ العقل الباطن من سباته، إلا حين يغفو العقل الظاهر، أو حين نمنحه إجازة كي يرتاح مؤقتاً ويتنازل راضياً عن دوره في حياتنا اليومية. إن عقل الإنسان يعمل طوال ساعات النهار دون توقف، ما يقوده إلى التسبب في إغراق صاحبه في دوامة من القضايا والمعارك الآنية المُتعبة ذات الصلة بأمور الحياة اليومية. وحيث أننا لا نستطيع أن نعيش وندير أمور حياتنا ونستمتع بها من دون التعامل مع المشاغل والفرص التي تُواجهنا، ومن دون خوض ما قد يترتب على ذلك من معارك، فإن العقل الظاهر يهيمن عادة على حياتنا ويعزل العقل الباطن عن مسرح الأحداث، يتركه يراقب ويُقيّم ويُدون عن بعد. 
لذلك كان على الإنسان الذي يود أن يرى ما في داخله، وأن يستعيد ذكريات يظن أنها دُفنت تحت ركام الأيام والأحزان والأحداث المتلاحقة، عليه أن يعطي عقله الظاهر إجازة قصيرة، يستغلها في التواصل الواعي مع عقله الباطن... ضميره الذي لا ينام، ولا ينسى شيئا مهما، ولا يُفوِّت فرصة من دون تسجيل ما هو مؤثر من أحداث وأحاديث ومشاعر. ومنذ ذلك اليوم، وعدتُ نفسي أن أحكي حكاية عمري لها بين الفينة والأخرى، وأن أتذكر وأسجل واستعرض ما استطعت من أحداثها ومحطاتها العديدة المهمة، وهي محطات تكاثرت بسرعة فائقة لم أكن أتوقعها، ومن النادر جداً، إن لم يكن من شبه المستحيل، أن يعيشها إنسان واحد في غضون عمر واحد مهما طال ذلك العمر. وكي لا أنسى، واظبت على سرد تفاصيل الحكاية لنفسي أثناء السفر في الطائرة والتجوال في الغابات، وأثناء خلودي للراحة في فراشي بعد يوم عمل مضن، وإضافة ما استجد من أحداث مهمة إلى مخزون الذاكرة، والخلوة مع ذاتي بين الحين والآخر كي تبقى الذكريات حية في الوجدان، تستنشق هواء الحرية وتجدد ذاتها بذاتها. 
والآن، بعد رحلة عمر طويلة أخذت تقترب من خط النهاية، رأيت أن من واجبي أن أسطر رحلة حياتي وتجربة عمري على الورق لتكون في متناول الناس جميعا... في متناول يد كل من يحب القراءة، وكل من يهوى المعرفة، وكل من يريد أن يعايش بعض أحداث الماضي في فلسطين والأردن ومصر والكويت ولبنان وألمانيا وأمريكا والمغرب وغيرها من بلاد العالم. تجربة تصف مشاعر من يتشوق للقيام بمغامرة جديدة في ربوع غابة كثيفة تسكنها الغزلان وتعطرها أزهار برية... مشاعر من يعشق الحب وحب الطبيعة... قمر لمن يحلم بقضاء ليلة مثيرة على صدر عشيقة فاتنة، ومنارة تضيء الطريق لمن يبحث عن حياة جديدة مُنتجة وفكر خلاق مُختلف... من يبحث عن أمل يعيد له الثقة بالنفس وبالحياة وبقدرة الإنسان على صنع مستقبله بنفسه. حكايتي طويلة بطول سنوات التشرد من الوطن، ومرهقة بقدر متاعب البحث عن وطن في غياب الوطن، وصعبة بقدر حجم خيبة الأمل في العثور على وطن بعد عشرات السنين، وعميقة بعمق محنة الشتات ومعاناة الشتات وقسوة عيون الشتات الباهتة، وحزينة بحزن أمل واعد يُذبح في محراب الظلم على مرأى من العالم أجمع في رابعة النهار، ومؤلمة بقدر معاناة حياة لم تتذوق طعم الاستقرار أو الطمأنينة يوما، وساحرة بسحر غروب فوق بحر تعلوه سحابة صيف ضائعة... نعم ضائعة... فكل حكاية عمر هي قصة ضياع مثير... رحلة في المجهول لا نعرف بدايتها ولا نعرف نهايتها، ولا نعرف كيف سيراها الغير ويفهمها، ولا كيف ستحكم عليها الأزمنة والأجيال القادمة. 
إن لكل إنسان تجربة حياتية خاصة تتشكل من العديد من التجارب الصغيرة والأحداث الكبيرة، المحزنة والمفرحة على السواء، المملة والمثيرة، القاسية والحنونة والهزلية. نعم إن لكل منا تجربة خاصة مع الحياة، ذلك لأن التجارب الحياتية تختلف باختلاف الناس، وتتباين بتباين ظروف معيشتهم، وتتنوع بتنوع مواقفهم ومعتقداتهم الدينية ومعارفهم العلمية وما يؤمنون به من خرافات ومعجزات وحكم، وتتباعد بتباعد الأزمنة التي عاشوا فيها ومارسوا الحياة في ظلالها، وتتقارب بتقارب خلفياتهم العلمية والثقافية والاجتماعية والأزمنة التي شكلت طرق حياتهم وتفكيرهم ونظرتهم ومصالحهم. لكن، وإن اختلفت التجارب الحياتية وتباعدت الأزمنة التي يعيشها كل منا، إلا أن المشاعر والعواطف الإنسانية تبقى واحدة إلى حد كبير، لا تتغير بتغير ظروف معيشية، ولا تتبدل بتتابع أزمنة حضارية. فكل إنسان يحب ويفرح ويحزن، وأحياناً يغضب ويكره، يخاف ويقلق ويحلم دون توقف، يعيش نشوة الأمل ومرارة الإحباط، وتنمو الطموحات في رأسه كالطحالب، وتتوالد الأحلام في قلبه كأزهار برية حتى وهو على فراش الموت. وهذا يجعل كل تجربة حياتية، وإن كانت ذات نكهة خاصة تميزها عن غيرها من تجارب، هي في الأساس تجربة إنسانية يعيشها صاحبها بكل مشاعره وأحاسيسه، ما يجعلنا قادرين على التعاطف معه أحياناً، وتَفهُّم ظروف حياته أحياناً أخرى، ومشاركته أفراحه وأحزانه ومآسيه في غالب الأحايين. فكل حكاية نقرأها أو نسمع بها، تُحدث لدينا صدى يذكرنا بتجاربنا وحكاياتنا الخاصة، بأفراحنا وآلامنا المعتقة، بعذابات الشوق واطياف الحنين التي ترافقنا العمر كله. وهذا يجعل التجارب المختلفة، كبيرها وصغيرها، دروساً وعبراً تستثير عواطفنا، وتقلق عقولنا، وتربك ضمائرنا، وتوحدنا حول مشاعر إنسانية أزلية مشتركة. 
حكايتي إذن هي رحلة ضياع وإغتراب... ضياع في الزمان، واغتراب في الذات وفي المكان... بدأت في زمن بعيد غير الزمن الذي نعيش فيه اليوم، وحُكم عليها أن تعيش كل الأزمة التي عاشها الإنسان عبر تاريخه الطويل على هذه الأرض. وحيث أن التاريخ لا يتوقف ولا ينتهي، فإن مسيرة الحياة ما تزال تُسارع الخطى، حتى وأنا أكتب هذه الكلمات، تسير على طريق طويل تتغير ملامحه كل لحظة، ما يجعلها حكاية بلا نهاية. هذه حكايتي، قد تُحبها وقد لا تحبها، قد تُعجبك وقد لا تعجبك، لكن أحداثها ستعيش معك عمر العمر، تُذكرك بكل زمن فات، وربما ترسم لك صورة لكل ما هو آت... حكاية تستوحي عبرها ومعانيها ودروسها وتخيلاتها من حقائق الواقع، وتراث ماض قريب وبعيد، ووحي مستقبل يتحدى الماضي والواقع على السواء. لهذا ستلاحظ أن التركيز في هذه السيرة ليس على صاحب السيرة وحياته الخاصة، بقدر ما هو على الظروف الموضوعية التي مرت بها السيرة وصاحب السيرة... على المواقف، والأحداث، والتيارات الفكرية، والاحزاب السياسية، والتحولات الاجتماعية والثقافية، والفلسفات الحياتية الشمولية، والتطورات الاقتصادية، والمصالح الشخصية والطموحات التي لونت مواقف بعض القيادات السياسية والحزبية... أحداث وتطورات وتحولات وتجارب جعلت من هذه السيرة حكاية فريدة من نوعها، غريبة في تفاصيلها، ثرية في عبرها. ومن خلال قراءة هذه السيرة، ستجد نفسك تبحر في المجهول، تعيش في محطات شتات أليمة تتحرك في مكان بلا زمان، وتركب قطارات أمل مثيرة تسير بسرعة مذهلة في زمان بعيدا عن المكان، وتقف أمام قادة سياسيين كبار وصغار، ومفكرين ومبدعين، ومدعي فكر وثقافة يستخدمون الغوغائية للتمويه والتزييف، وصعاليك معدمين، وفقراء هائمين على وجوههم، وطلاب أشقياء، وجهلاء وبلهاء وأذكياء بلا عدد، وأثرياء لا يعرفون من الحياة غير المال يسرقونه من عرق الضعفاء وقوت الفقراء وبؤس بؤساء لا يملكون ثمن دواء... تجد نفسك أمام هؤلاء جميعاً تحاورهم حوار الند للند... تخاطبهم بصراحة وحرية وجرأة لا تعرف النفاق أو الرياء أو الخوف... ومن ثم تسير في طريقك راضياً أحياناً، وغاضباً أحياناً أخرى، وحزيناُ في معظم الأحايين، تسافر مع مسيرة تاريخية لا تتوقف أبدا عن التغير أو التحول أو التطور... مسيرة ديناميكية تتحرك تلقائياً وتكتب تاريخاً جديداً كل ساعة، متجاوزة بذلك نفسها بنفسها وكل شيء حي وميت تمر عليه في طريقها، متحدية كل فكر قديم وجديد، وكل عمر حزين وسعيد، وكل حر وعبد يعيش في دنيا البذخ أو القهر العنيد. 
 


Deprecated: Directive 'allow_url_include' is deprecated in Unknown on line 0