الشتات -الحلقة الثانية عودة إلى "يازور"

الكاتب: 

الدكتور محمد ربيع

كاتب وشاعرومفكر - واشنطن دي سي
الاثنين, مايو 31, 2021 - 20

تقع قرية يازور التي تحاذي مدينة يافا ولا تبعد عن بحرها الساحر سوى خمسة كيلومترات تقريباً على الطريق الدولي الذي يربط يافا بالقدس مروراً بمدينة الرملة، أما عدد سكان يازور فقد بلغ 4675 نسمة في عام 1948. وهناك، في يازور، كانت محطتي الأولى، حيث ولدت وتشكلت براعم طفولتي التي أُُقتلعتْ من جذورها بعنف قبل أن تُزهر... أُقتلعت حين قامت العصابات الإرهابية اليهودية بمصادرتها بوحشية. لقد جاءت تلك العصابات إلى بيتنا في أقسى ليالي الشتاء برداً، وأكثرها سواداً، وأغزرها مطراً لتسرق طفولتي مني قبل قدوم الربيع وحلول موسم الإزهار. وحين صادرت طفولتي، حكمت تلك العصابات الإجرامية على ذكرياتي بالنفي بعيداً عن الأنظار في إحدى زوايا الوجدان، حيث تركتها تغرق في بحر من الآلام والأحزان والضياع والنسيان. لكن العقل الباطن كان قد احتفظ بصورة حية لتلك الذكريات، وحين أيقظته الصدمة من سباته بعد مرور عشرين عاماً في غابات جاتلنبرج، أطلعني على ما كان لديه من كنوز، وسمح لي بإعادة اكتشافها ومعايشتها والتمعن في معانيها وعبرها. لقد تسببت عملية الغزو الصهيوني، ومن حيث لا أدري، في طمس تجربة يازور، وقامت بكبت حبي لها ولبساتين البرتقال وزهر البرتقال وشجيرات التين والجوافة التي كنت أتسلقها وأتسابق مع العصافير على قطف ثمارها... تلك العصافير التي عشقتها عشقاً جماً وغدا عشقي لها وشوقي لرؤيتها ثانية حقاً يأبى النسيان، وتجربة لا تُمحى من الذاكرة أو الوجدان. ومع سرقة طفولتي ومصادرة ذكرياتي جاء الهروب من البيت في عتمة الليل وتحت ظلال دخان قنابل قاتلة وهطول أمطار غزيرة وعواصف مرعبة حرمتنا من رؤية الطريق. كان الهروب من البيت قد جاء ضمن حملة التطهير العرقي التي شنتها العصابات اليهودية في أعقاب صدور قرار التقسيم في عام 1947، ما تسبب في فُقداننا كل شيء مادي جمعه والدي في حياته، وكل حجر بناه بيديه وعرق جبينه، وكل شتلة خضار وشجرة مثمرة ووردة عطرة رعاها بقلبه ومنحها جزءاً من روحه. وفي ربكة الهروب، وبسبب قسوة الإرهاب، وخوف اللحظة، وصدمة النفي، وعذاب الغربة،وآلام البؤس والتشرد، نسي والدي ونسيت والدتي تاريخ ميلادي وتاريخ ميلاد إخوتي وأخواتي.

كانت يازور عبارة عن حديقة كثيفة من أشجار البرتقال والليمون وغيرها من حمضيات وفواكه، وكان المارة في شوارعها وبين بساتينها يشمون عبير الليمون ويغمرهم أريجه، ويرافقهم عطرها حيث ساروا... غرباً على الطريق إلى يافا وبحرها الذي تسكنه أفضل أنواع السمك، أو شرقاً على الطريق إلى قرية بيت دجن ومنها إلى قرية وادي حنين جنوباً، أو شرقاً إلى قرية صرفند وصولاً إلى مدينتي الرملة واللد، أو شمالاً على الطريق المؤدي إلى قرية سلمه ومنها إلى قرى ساكيه والخيرية وكفر عانة والعباسية وغيرها. وفي بدايات الربيع من كل عام، كان الحنون الأحمر يغمر روابي يازور وتغزوها الفراشات العاشقة للزهر ورحيقه من كل أرجاء الدنيا. كانت الفراشات الملونة تسافر عمراً بأكمله عبر المحيطات والجبال والسهول والوديان لتستمتع بزهو الحنون ولون العشق يُلون وجناته، وترشف رحيقه الذي يُطيل عمر كل فراشة تطأ أرض يازور وترتوي من مياهها العذبة... تلك المياه التي تُشفي كل عليل وتطهر كل قلب وذنب. 

يازور هي إحدى القرى الفلسطينية أل 531 التي قام الصهاينة بتدميرها وإزالة آثار سكانها العرب الذين عاشوا فيها عصوراً بلا حصر. وفي يازور قام الصهاينة بهدم معظم البيوت وحولوا البلدة القديمة إلى قرية صغيرة لا يزيد عدد سكانها على بضعة مئات، تشبه إلى حد بعيد ضيعة لبنانية معلقة على سفح جبل، أو قرية سويسرية صغيرة تنعم بظلال غابة صنوبر. وكما أن بيوت وبساتين يازور لم تنج من عبث المستعمر اليهودي، فإن الآثار التاريخية لم تنج هي الآخرى، فقد حولوا بقايا القلعة الرومانية التي كانت تسمى "البوبرية" وما حولها من مبان قديمة إلى منتزه جميل وهادئ، وحولوا الجامع ذا القباب السبعة الذي كان يسمى "مقام الإمام علي" إلى معبد يهودي. وحين سمحت لي الظروف بزيارة يازور في عام 1996، أي بعد 48 سنة من الغياب والنفي والاغتراب، رأيت امرأة عجوز تجلس على كرسي خشبي بالقرب من القلعة وبيدها كتاب، وتحت أقدامها تحفة فنية رائعة من النقوش... قطعة من بقايا أرضية بيت جميل تعود ملكيته لأحد أقاربنا، الشيخ أحمد حامد أبو ناموس. أما يازور الحديثة وما كان بها من بساتين كثيرة وأشجار مثمرة وأزهار متنوعة الألوان، وعصافير تهوى التغريد، وآبار ارتوازية لا تتوقف عن ضخ المياه، وبرك سباحة وبيوت ريفية جميلة فقد تحولت بفعل المستعمرين إلى بقايا مكان حي... تحولت إلى مدينة صناعية ملحقة بمستوطنة حولون التي تعتبر  من أكبر التجمعات الصناعية في الدولة العبرية المُغتَصِبة.

تشير الخرائط القديمة والآثار القائمة إلى أن يازور قديمة قدم التاريخ، فقد جاء ذكرها في حوليات الملك الآشوري سنحريب في أوائل القرن الثامن قبل الميلاد، وأن اسمها في حينه كان أزورو. وفي القرية عدة أماكن أثرية ذات أهمية تاريخية، حيث أُكتشف فيها قبران يعودان إلى الألفية الرابعة قبل الميلاد. ولقد تم فتح يازور على يد القائد العربي عمرو بن العاص أثناء فترة الفتوحات الإسلامية. ويُعتبر جامع القرية الذي تعلوه سبعة قباب من أهم الآثار التاريخية في يازور، وهناك اتفاق حول تاريخ هذا الجامع الذي يُعتقد بأنه أقيم في عصر المماليك في القرن السابع عشر على أنقاض كنيسة مسيحية قديمة أقامها الصليبيون، ولقد قام اليهود بتحويل ذلك المكان إلى معبد يهودي بعد توقيع اتفاقية أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية في عام 1993. كان "مقام الإمام علي" لا يُستعمل مكاناً للصلاة والعبادة فقط، بل وأيضاً مركزاً لتجمع الأهالي وإقامة الاحتفالات والأعراس، إضافة إلى كونه مدرسة لتدريس الأطفال وتحفيظ القرآن. أما بواقي القلعة الرومانية فيعود تاريخها للقرون الوسطى، إذ أقامها الصليبيون للملك ريتشارد قلب الأسد الذي قضى وقتاً طويلاً في منطقة يازور/يافا، حيث كانت القرية مسرحاً لمعارك دامية دارت رحاها بين المسلمين والصليبيين في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، ومسرحاً لأحداث سياسية مهمة كان من بينها المفاوضات التي دارت بين ريتشارد قلب الأسد قائد قوات الصليبيين في حينه، وصلاح الدين الأيوبي قائد جيوش المسلمين. 

ينقسم سكان يازور إلى أربع عائلات كبيرة، أو "حمايل"، ويبدو أن القرويين والفلاحين في فلسطين اختاروا تعبير "الحامولة" بدلا من "العشيرة" الذي تستخدمه القبائل العربية في الأردن والعراق وبلاد الشام وغيرها. أما تلك الحمايل فهي: البطانجه، والعميريه، والمصاروه، والحوامده التي انتمي إليها، إلا أن والدتي تنتمي إلى حامولة العميريه، وزوج خالتي ينتمي إلى حامولة المصاروه، وزوجة الجد إسماعيل تنتمي إلى حامولة البطانجه. ويختلف أهل يازور والمؤرخون والمهتمون بالأنساب حول أصول تلك الحمايل. فهناك من يدعي بأن أصول جميع أهل البلدة تعود إلى الجزيرة العربية واليمن، وهناك آخرون يدعون بأن الشعب الفلسطيني ينتمي لأصول متعددة تعود إلى الكنعانيين واليونانيين والفرس والرومان الذين سكنوا أو حكموا تلك البلاد قديماً. كما يظن آخرون أن معظم الشعب الفلسطيني يعود بجذوره إلى القبائل العربية التي جاءت مع الفتوحات الإسلامية، وإلى الصليبيين الذين استولوا على تلك البلاد في العصور الوسطى، وإلى الأكراد الذين جاؤوا مع صلاح الدين الأيوبي لمحاربة المستعمرين الأوروبيين إبان الحروب الصليبية، وإلى المصريين والأتراك والبريطانيين وغيرهم ممن قدموا لفلسطين أو حكموها حديثاً. كما يرى آخرون أن حمولة المصريين بالذات تعود في أصولها للعسكر الذين جاؤوا ضمن حملة إبراهيم باشا لضم بلاد الشام، أي فلسطين وسورية ولبنان والأردن إلى مصر إبان الحكم العثماني. ولكن، ومهما قيل في هذا الموضوع، فإن من المؤكد أن بعض الفلسطينيين يعودون في أصولهم أيضاً إلى القبائل الإسرائيلية القديمة الذين سكنت مناطق من فلسطين في عهد التوراة والإنجيل، وإلى الأشوريين والكنعانيين الذين سبقوهم وكانوا أول من استوطن أرض فلسطين وعمرها. 

ومهما كان من أمر هذا الخلاف في الرأي، فإن الشيء الثابت والوحيد هو أن جذور غالبية أهل يازور تعود إلى أقدم الحقب التاريخية، إذ تشير بعض الخرائط القديمة إلى أن يازور تبلورت كمستوطنة زراعية مع بدايات عصر الزراعة قبل حوالي عشرة آلاف سنة، وتطورت مع الأيام لتغدو محطة على الطريق إلى البحر. ولقد تعرضت يازور كغيرها من قرى ومدن وبلاد للغزو من قبل قبائل وجيوش أجنبية قامت بسبي نسائها وأطفالها وقتل رجالها، وهذا جعل فلسطين تخضع خلال حقب التاريخ المتتابعة لحكم أكثر من إمبراطورية قديمة ودولة استعمارية غازية، ما فرض على سكانها التواصل مع الآخر والتفاعل مع حكام وشعوب وثقافات غريبة عن ثقافتهم وتاريخهم. كما وأن التفاعل مع الآخر من خلال عمليات الغزو والتجارة والتبشير الديني قاد إلى زاوج الكثير من الرجال والنساء من غرباء، ما أدى إلى اختلاط الدماء والأجناس... لقد كان التزاوج والتلاقح الثقافي سبباً في اختلاط الغريب بالوطني وذوبانه في المجتمع الأكبر، حتى أصبح الكل جزءاً لا يتجزأ من مجتمع واحد، لا يمكن فصل أعضائه عن بعضهم البعض. لذا لا يمكن، ولا يجوز أيضاً التهرب من الاعتراف بأن الشعب الفلسطيني، كغيره من شعوب الأرض، هو خليط من شعوب وأجناس عديدة، عربية وغير عربية، من بينها الكنعانيين والأشوريين والإسرائيليين والفراعنة واليونان والفرس والرومان والعرب والمغول والأكراد والأتراك والأمازيغ والسودانيين، والمغاربة، والأفارقة، والمستعمرين الأوروبيين من فرنسيين وبريطانيين وغيرهم. 

اتجه أهل يازور في بداية الثلاثينيات من القرن العشرين إلى زراعة الحمضيات وتربية الأبقار الهولندية من نوع هولشتاين على نطاق واسع، وذلك لارتفاع العوائد المادية من الحمضيات ومنتجات الألبان عموماً. وهذا دفعهم إلى التوسع في حفر الآبار الارتوازية التي بلغ عددها 140 بئرا في عام 1945، حيث كان لكل بئر مضخة تعمل على الديزل وتُشغل في العادة مرة كل أسبوع. كانت تلك الآبار المصدر الرئيسي لمياه الشرب وري المزروعات في القرية، وكانت ماكينات الضخ تقوم بضخ المياه في برك كبيرة نسبياً، جدرانها من الأسمنت المسلح، استخدمها الأهالي لري المزروعات والشرب والسباحة على السواء. وهذا شجع الكثيرين من أهل البلدة على ترك بيوتهم القديمة في وسط القرية والرحيل منها إلى بساتينهم التي كانوا يسمونها "بيارات"، وإقامة مساكن ريفية حديثة فيها، ينافسون العصافير في التمتع بها والعيش في ظلالها وعلى خيراتها. نتيجة لذلك أصبحت البلدة تنقسم إلى قسمين رئيسيين: يازور القديمة التي تعتز بآثارها وتاريخها العريق ونكهتها العتيقة ودورها التقليدي كمركز تجاري وخدماتي وترفيهي، ويازور الحديثة التي تزهو بأشجارها وأزهارها وعبيرها وطيورها وبيوتها ومسابحها ومياهها العذبة. ولقد أدى التوسع في زراعة الحمضيات وتربية الأبقار إلى زيادة الدخل وتنويع مصادره بالنسبة لمعظم العائلات، وتسبب في رفع معدلات استهلاك السكان عامة من الحليب والألبان والأجبان والزبدة. وحيث أن أهالي يازور كانوا من ملاك الأراضي الزراعية، أو من أصحاب بساتين البرتقال والحمضيات، فإنهم كانوا جميعاً من الميسورين، وإن كان ذلك بدرجات متفاوته، ولم يعرفوا خلال تاريخهم الطويل في قريتهم ووطنهم الجوع أو الفقر أو الحاجة، إذ لم يكن في يازور عائلة واحدة لا تملك بيتاً أو أرضاً زراعية، كما لم يكن من بين أهلها إقطاعي واحد.
 


Deprecated: Directive 'allow_url_include' is deprecated in Unknown on line 0