الشتات - الحلقة الخامسة "بداية الإستعمار"

الكاتب: 

الدكتور محمد ربيع

كاتب وشاعرومفكر - واشنطن دي سي
الجمعة, يوليو 2, 2021 - 05

اخبرني الصديق العزيز لودفيج وهبي تماري، أحد أبناء مدينة يافا، وربما أكثرهم عشقاً لها، أن منطقة "تل الريش" الواقعة في طرف مدينة يافا كان اسمها حتى بدايات القرن العشرين "تل الروس". ويعود سبب تلك التسمية إلى واقعة قطع رؤوس حوالي 2000 شخص في ذلك المكان... أشخاص كان نابليون قد جمعهم واحتجزهم كأسرى ورهائن في طريقه من مصر إلى عكا، بعد نجاحه في غزو مصر والاستيلاء عليها في أواخر القرن الثامن عشر. وبسبب تفشي مرض الطاعون بين أولئك الضحايا، ومن بينهم العديد من جنوده، فإن نابليون قام بعزلهم في منطقة نائية على أطراف يافا، حيث تركهم هناك فريسة للجوع والمرض والإهمال، وسار في طريقه إلى عكا بهدف الاستيلاء عليها. وفي أعقاب فشل جيشه في اقتحام تلك المدينة في عام 1799، أصدر الإمبراطور الفرنسي أوامره في طريق العودة إلى مصر بقتل الرهائن وقطع رؤوسهم وحرق جثثهم، حيث تم تنفيذ تلك الجريمة على رأس تلك الهضبة المشرفة على البحر. لذلك اكتسبت تلك الهضبة اسم تل الروس، ومن ثم تحول اسمها إلى تل الريش حين بدأ سكان يافا باستيطانها. أما الجريمة فقد بقيت آثارها مخفية حتى قيام أهل يافا بالتوسع الزراعي في اتجاه تلك الهضبة في أوائل الثلاثينات من القرن الماضي، وتحويل معظم أراضيها إلى بساتين برتقال وحمضيات... إذ من خلال أعمال التشجير وعمليات حفر قنوات الري والآبار الارتوازية، عثر المزارعون على عشرات الرؤوس المقطوعة والعظام في بيارة تماري، وعلى المئات غيرها في بيارات أخرى مجاورة. وتشير المعلومات المتوفرة، وأغلبها شفوية، إلى أن الضحايا كانوا خليطاً عجيباً من الناس، الأغلبية كانت من الأتراك، والباقي كانوا من المصريين والسودانيين والأفارقة والفلسطينيين والمرتزقة الأوروبيين الذين حاربوا في صفوف جيش نابليون. 

يبدو أن هزيمة نابليون أمام أسوار عكا، ومروره عبر سيناء في طريقه من مصر إلى تلك المدينة قد أقنعته بأن لفلسطين أهمية استراتيجية. وهذا جعله يقترح على يهود أوروبا إقامة دولة لهم في فلسطين تكون حليفة لفرنسا، وتقديم الوعود لهم بمساعدة الإمبراطورية الفرنسية. كان هدف نابليون الأساسي احتواء النفوذ البريطاني في تلك المنطقة عبر إقامة كيان غريب عنها متحالف مع فرنسا. وبذلك يكون نابليون قد استبق قيام الحركة الصهيونية بحوالي 100 عام، وحدد معالم الاطماع الاستعمارية وأهدافها الرئيسية في المنطقة العربية.

في عام 1840، قام البريطانيون بتبني فكرة نابليون والاتصال بالسلطان العثماني، حيث طلبوا منه السماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين والتوطن فيها. إلا أنه على الرغم من قيام السلطان برفض الطلب البريطاني، إلا أن بريطانيا تبنت سياسة تشجيع أثرياء اليهود على تمويل بناء مستوطنات يهودية في فلسطين... ومع افتتاح قناة السويس للملاحة والتجارة الدولية في عام 1862، أدركت بريطانيا أهمية ذلك المجرى المائي، وحاجتها الاستراتيجية للسيطرة على تلك القناة من أجل التحكم في طرق التجارة الدولية ما دفعها إلى التوجه بقوة نحو دعم الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وتمهيد الطريق لإقامة كيان سياسي يهودي في تلك البلاد يكون متحالفاً معها ومعادياً لسكان المنطقة من العرب. وكما جاء في عديد الوثائق والكتب المنشورة، كان هدف بريطانيا هو الهيمنة على قناة السويس من ناحية، والحيلولة دون قيام وحدة عربية تجمع عرب إفريقيا مع عرب آسيا في دولة واحدة من ناحية ثانية. ولقد تتوجتْ جهود بريطانيا والحركة الصهيونية بالنجاح بعد استيلاء بريطانيا على فلسطين في عام 1917، وهو العام الذي شهد أيضاً صدور "وعد بلفور" الذي تعهدت بريطانيا بموجبه بمساعدة يهود أوروبا الذين كانوا قد أنشأوا الحركة الصهيونية على إقامة وطن قومي لهم في فلسطين.
 وتشير الوثائق التي كُشف النقاب عنها حديثاً إلى عمق الالتزام البريطاني بتحقيق ذلك الهدف، ومدى الدعم السياسي والمادي والعسكري الذي قدمته تلك الدولة الاستعمارية للحركة الصهيونية من أجل تمكينها من إقامة دولة إسرائيل على أرض فلسطين، وإلى سكوت قوات الاحتلال البريطاني على جرائم التطهير العرقي التي ارتكبتها المنظمات الإرهابية الصهيونية والقوات المسلحة اليهودية خلال عامي 1947 و 1948. ومع أنه مضى على إقامة دولة إسرائيل 65 عاماً، وعلى الرغم من تحول قطاع كبير من الرأي العام البريطاني إلى جانب الفلسطينيين، وقيام العديد من المؤرخين والمثقفين بالاعتراف بجريمة بلادهم وكشف حقيقتها وإدانتها، إلا أن النخبة الحاكمة في بريطانيا ما تزال ترث العنصرية والكراهية جيلاً عن جيل، ما جعلها لا تتراجع عن دعم إسرائيل، ولا تتواني عن تقويض محاولات التحرر والتنمية والوحدة في الوطن العربي.

حين وقعت الحرب العالمية الأولى كان "محمود القنيري"، خال العبد أبو ربيع، ضابطاً برتبة عالية في الجيش التركي. وحين هُزمت تركيا في تلك الحرب وتفرق جيشها، أطلق القنيري سراح جنوده، وبدأ رحلة العودة من اليمن إلى وطنه في فلسطين ليصل يازور بعد أن كان جيش الاحتلال البريطاني قد دخل فلسطين وسيطر على كامل أراضيها. اعتبر الناس نجاح القنيري في الوصول إلى فلسطين بعد أشهر من السفر من اليمن عبر السعودية والأردن على ظهر حصانه وبندقيته معلقة على كتفه معجزة. لقد قطع محمود القنيري تلك البلاد بجبالها وسهولها وصحاريها من دون أن تصادفه قوات معادية، ومن دون أن تعترض طريقه عصابة، أو مجموعة من قطاع الطرق من البدو الذين يجوبون الصحارى عادة بحثاً عن ضحية. لكن تلك "المعجزة" كانت تعكس حال العرب في تلك الأيام، التعاطف مع بعضهم البعض، ومد يد العون والمساعدة لكل غريب، وحماية أبنائهم المخلصين من غدر الأعداء وقطاع الطرق... كانت أخلاقيات التعاطف، ووحدة الدين واللغة، وتشابه العادات والتقاليد عوامل ثقافية مشتركة وحدت العرب وجمعتهم في الماضي، فيما كانت أخلاقيات السياسة والجشع وعبادة المال والسلطة عوامل فرقتهم في الحاضر.
 وفي الواقع، وحتى عام 1939 لم تكن هناك حدود سياسية بين البلاد العربية بالمعنى المتعارف عليه اليوم، لذلك كان العربي يقطع بلاد العرب من موريتانيا إلى عُمان من دون إذن مسبق، أو فيزا، أو جواز سفر. كما كان المسافر أو الرحالة يجد دوما من يستقبله بالترحاب ويدعوه إلى الإقامة في بلده ويتخذه صديقاً أو أخاً، ما جعل عشرات وأحياناً مئات العائلات المهاجرة تسكن في معظم المدن وحتى القرى العربية البعيدة والقريبة.

كان من حسن حظ وتخطيط محمود القنيري أنه مر على يازور قبل أن يواصل طريق العودة إلى عائلته في قرية الشيخ مونس. وحين وصل يازور استقبله جدي وجدتي ووالدي الذي كان صبياً، بالفرح والترحاب. أخذوا منه الحصان والبندقية وأخفوها بعيداً عن الأنظار وعن عيون جيش الاحتلال البريطاني الذي كان يتصيد أمثاله من الضباط ويعدمهم على الفور، وأحضروا له لباساً مدنياً بدلاً من زيه العسكري، واستضافوه بضعة أيام قبل مرافقته إلى الشيخ مونس مروراً بأطراف مدينة يافا وتل أبيب التي كانت تعج بالجنود البريطانيين. لقد قطع محمود القنيري الأراضي السعودية والأردنية والفلسطينية دون أن يعلم أن فلسطين وقعت في يد البريطانيين الذين جاؤوها أعداء مُحتلين مُستعمرين ومتواطئين مع الصهاينة. كانت الحكومة البريطانية حينئذ قد أصدرت وعد بلفور، ونذرت نفسها لاستخدام قوتها العسكرية ومكانتها الدولية لضمان إقامة كيان يهودي عنصري بغيض على أرض فلسطين. كان هدف بريطانيا كما أثبتت الوثائق والدراسات لاحقاً هو إقامة كيان سياسي معاد على أرض فلسطين يكون أداة عسكرية تحول دون تواصل الشعوب العربية التي تعيش في افريقية مع الشعوب العربية التي تعيش في آسيا، وتشكل بالتالي ضمانة لتكريس التجزئة السياسية والتخلف الاقتصادي والثقافي على الأرض العربية، والحيلولة دون توحيد العرب في دولة واحدة تُناهض الاستعمار وتسعى لتحقيق نهضة عربية تمكنها من اللحاق بالعصر. 

حين اتضحت تلك الصورة أمام شعب فلسطين وبعض القيادات العربية في أواخر العشرينيات من القرن الماضي، قام الشعب الفلسطيني بالثورة تلو الثورة ضد قوات الاحتلال البريطاني، كما اتجه لمقاومة عمليات التهجير اليهودية بشدة، وهي عمليات شجعتها الحكومة البريطانية وقامت بحمايتها والمساعدة على إنجاحها وتشجيع يهود أوروبا على تمويلها. ولقد جاءت أهم الثورات الفلسطينية التي راح ضحيتها أكثر من 5000 من المقاتلين العرب والأبرياء فيما بين الاعوام 1936-1939، وأدت إلى تعطيل الحياة وتوقفها بالكامل في عام 1936 نتيجة لإعلان الشعب الفلسطيني إضراباً عاماً استمر ستة أشهر متواصلة. كان أحد أخوال والدي، الأخ غير الشقيق لخالته الحاجة عائشة، من بين كبار الثوار الذي قاتلوا القوات البريطانية بعناد تحت إمرة القائد حسن سلامة خلال سنوات الثورة. لكن بعد هزيمة الثوار، ونجاح الإدارة البريطانية في اعتقال العشرات منهم، هرب الخال من الجبال إلى يازور، حيث أقام في بيتنا حوالي أسبوعين حتى استعاد صحته وتوازنه. وقبل أن يستهدي إليه المستعمرون البريطانيون ويقوموا باعتقاله وإعدامه، قام والدي بتهريبه عبر بيارات البرتقال التي كان يعرفها بيارة بيارة مشياً على الأقدام إلى غزة التي تبعد عن يازور حوالي 70 كيلومتر. كانوا يسيرون معظم ساعات الليل، ولكن بحذر شديد، ويختفون عن الأنظار في حضن البيارات ساعات النهار، ما جعل الرحلة تستغرق خمسة أيام. ومن غزة، عبر الخال الحدود المصرية من مدينة رفح إلى مدينة العريش، ومنها سافر إلى القاهرة التي استقبلته كما استقبلت غيره من ثوار فلسطينيين بالترحاب. وبعد أن استقر به الحال في القاهرة، لحق به أفراد عائلته، وأصبحوا مع الأيام والسنين جزءاً من الشعب المصري. وحين سافرت إلى القاهرة في عام 1958 للدراسة فيها، كان الشيء الأهم الذي أوصاني به الوالد هو البحث عن أولاد خاله الذين التحقوا بالأزهر، ومحاولة التعرف اليهم وطمأنته على أحوالهم... وحين زرت الأزهر بحثاً عنهم، جاءت التجربة لتؤكد قناعات قديمة وتوضح حقائق جديدة ذات أبعاد وآثار عميقة على حياة أمتنا، سنأتي على ذكرها حين نصل إليها من خلال سرد تفاصيل هذه السيرة وتحليل الظروف الموضوعية التي صاغتها.

لم يتغيب العبد أبو ربيع أبداً عن بيارته أثناء قطف محصول البرتقال، على الرغم من أنه كان يُضمِنُها لشركات متخصصة كغيره من أبناء يازور، وذلك بسبب حرصه عليها وحبه لشجرة البرتقال. استمر الوالد في العمل مع شركات المتاجرة بالبرتقال بشكل متقطع، وهي شركات صغيرة في الغالب كانت تُسمى "مشاغل". أما المشغل فكان عبارة عن مجموعة من العمال والموظفين مهمتهم قطف البرتقال وفرزه وإعداده للتصدير، وعدد محدود من السيارات مهمتها شحن البرتقال إلى الموانئ ونقل العاملين من وإلى مكان العمل. كان الوالد، كما أخبرني لاحقاً، يحب أجواء المشغل وليالي السهر والسمر مع الأصدقاء، ويهوى السفر وزيارة المدن والقرى الفلسطينية القريبة والبعيدة على السواء، ويحب التعرف اليها وعلى أهلها وما لديهم من عادات وتقاليد مختلفة. كانت سيارات المشغل، أي شحن البرتقال ونقل العمال، تقوم في الصباح بنقل العمال من أماكن تجمعهم في المدن والقرى إلى مواقع العمل، أي إلى البيارات التي تنتظر دورها ليتم قطف ثمارها، وتعيدهم في المساء إلى أمكنة التجمع. وحين تكون البيارة بعيدة، كان العمال يقيمون في خيام على أرض الموقع، ولا يغادرون البيارة المعنية إلا بعد أن تنتهي مهمة قطف البرتقال، ويتم شحنه إلى المرفأ لتصديره. 
بعد تردد، وافق العبد أبو ربيع في أواخر عام 1947 على العمل مع الشركة التي اعتاد العمل معها وتضمينها بيارته، والسفر مع رفاق عمر بعيداً عن بيته وعائلته في شمال فلسطين، في منطقة الطنطورة، وذلك بعد أن تم قطف بيارته ولم يعد لديه ما يشغله في يازور. وحين انتهى العمل في ذلك المشغل بعد يومين، قام العمال بركوب سيارتيّ نقل، غادرت الأولى في حوالي الثالثة بعد الظهر وعلى متنها حوالي خمسين عاملاً وموظفاً، كان والدي أحدهم، على أن تتبعها السيارة الثانية بعد ساعة على الأكثر، ريثما يتم التأكد من تحميل كافة المعدات وركوب جميع العاملين على متنها. وحين وصلت السيارة الأولى إلى قرية الطنطورة في طريقها إلى يافا، اعترضت طريقها عصابة إرهابية يهودية مسلحة مكونة من ثلاثة أشخاص، خرجوا فجأة من بيارة على جانب الطريق. أوقفوا سيارة المشغل، أمروا ركابها بالنزول والاصطفاف صفاً واحداً جنباً إلى جنب، فيما وقفوا خلفهم يتهامسون بالعبرية. كان واضحاً أنهم يدبرون مؤامرة لقتل العمال، ويبحثون عن أفضل وسيلة لتنفيذ جريمتهم من دون أن يُعَّرضوا حياتهم للخطر. 

فكر العبد أبو ربيع في الأمر بسرعة، همس في أذن من كان على يمينه وعلى يساره من الرفاق، وأصدر لهم الأوامر بالهجوم الفوري والجماعي على المسلحين في حالة قيامهم بأخذ أي شخص من الرفاق إلى داخل البيارة المجاورة. كانت المناوشات المسلحة بين العرب والمنظمات الإرهابية اليهودية حينئذٍ قد اشتدت، وكان أفراد تلك العصابات يتصيدون الفلسطينيين العزل من السلاح، يختطفون كل من استطاعوا اختطافه، يسلبون ما لديه من مال وأشياء ثمينة، ويقومون بعد ذلك بقتله ودفن جثته في أقرب بيارة مجاورة حتى لا يتم العثور عليها وينكشف سرها. وفيما كان المسلحون يتهامسون ويستكشفون الموقع تمهيداً لارتكاب جريمة القتل بحق الأبرياء، كان الرفاق يتأهبون نفسياً للانقضاض على أفراد العصابة اليهودية إذا اقتضى الأمر ذلك، علماً بأن نجاة الأغلبية كانت ستكلف الأقلية حياتها. في تلك الأثناء، وصلت فجأة دورية بريطانية في سيارة جيب، نزل ضابط منها بسرعة، صرخ في وجه الإرهابيين اليهود وأمرهم بالانصراف فوراً، ما اضطرهم إلى الانسحاب داخل البيارة المجاورة التي خرجوا منها. التفت الضابط البريطاني نحو الرجال المصطفين أمامه على طول الشارع... طلب منهم ركوب سيارتهم ومواصلة الرحلة، وانتظر حتى ابتعدت السيارة عن مكان الحادث تماما. وصلت السيارة الأولى التي كان الوالد فيها محطتها الأخيرة في مدينة يافا متأخرة حوالي نصف ساعة عن موعدها، ولكن السيارة الثانية لم تصل أبدا... لقد تم استيلاء الإرهابيين عليها بعد أن قاموا بقتل كل ركابها في مجزرة بشعة لم يُكشف عنها إلا بعد عقود. 


Deprecated: Directive 'allow_url_include' is deprecated in Unknown on line 0