الشتات الحلقة السابعة " الماسونية في فلسطين "

الكاتب: 

الدكتور محمد ربيع

كاتب وشاعرومفكر - واشنطن دي سي
الخميس, يوليو 22, 2021 - 08

دخلت قوات الهاجاناة مدينة يافا يوم 13 مايو (أيار) عام 1948 وقامت بالاستيلاء عليها وتفريغها من غالبية سكانها. أخبرني الصديق لودفيج تماري أنه رافق والده حين كان شاباً في مقتبل العمر إلى اجتماع لوجهاء يافا شارك فيه أعضاء "اللجنة القومية"، وذلك قبل سقوط المدينة في يد عصابات الهاجاناة بأسبوعين تقريباً. ولقد جاء الاجتماع الذي عقد في فندق بركات (Cliff Hotel) المشرف على البحر الأبيض المتوسط لدراسة اقتراح من رئيس بلدية تل أبيب السيد إسرائيل روكاخIsrael Rokach ، وقام بنقله ثلاثة من وجهاء يافا كانوا زملاء للسيد روكاخ في قيادة الحركة الماسونية في فلسطين. اقترح السيد روكاخ على زملائه ووجهاء يافا إعلان مدينتهم مدينة مفتوحة، أي الاستسلام، وذلك لتحاشي قيام الهاجاناه باقتحامها بالقوة وتدميرها وتهجير أهاليها بالقوة. وحيث أن السيد روكاخ كان يطمح في ضم يافا إلى مدينة تل أبيب التي كان يرأسها، فإنه أخبر زملاءه بأنه على استعداد لإعلان تل أبيب مدينة مفتوحة أيضاً، شريطة موافقة وجهاء يافا على اقتراحه بإعلان مدينتهم مدينة مفتوحة. إلا أن أحد أبناء يافا الذين شاركوا في اجتماع ذلك اليوم من أبناء عائلة الدجاني، وكان اسمه، حسب ظن السيد لودفيح تماري، مظفر الدجاني، وقف حال سماع الاقتراح، ضرب الطاولة التي كانت أمامه بيده بقوة، وقالبغضب: "إنني اشتم رائحة الخيانة... إنني أشتم رائحة الخيانة". وعندها توقفت المداولات، وخيم السكون على المكان، وسكت الحاضرون عن الكلام، وانفض الاجتماع بهدوء دون حدوث تبادل للآراء، وطبعا من دون اتخاذ أي قرار. 

قال الصديق لدوفيج تماري أن الانتساب لعضوية الحركة الماسونية في تلك الأيام كان مقتصراً على أبناء العائلات المعروفة في المدينة، خاصة العائلات المهيمنة على التجارة وإدارة الغرفة التجارية، ما جعل الماسونية تضم أعضاء من غالبية أبناء العائلات المسلمة والمسيحية المعروفة في فلسطين، إضافة إلى بعض أبناء العائلات المعروفة في الأردن. كما أشار إلى أن تعاون التجار ورجال الأعمال والمال العرب مع زملائهم من التجار ورجال الأعمال والمال اليهود كان قوياً وقام على تبادل المصالح، وأنه استهدف خلق صداقات مشتركة، وبناء علاقات ود متبادلة يكون من شأنها تخطي الحواجز الدينية والطائفية التي كانت تفصل اليهود عن العرب، والمسلمين عن المسيحيين. ومن بين العائلات التي انضم واحد أو أكثر من أبنائها لتلك الحركة في حينه حسب المعلومات التي زودني بها السيد تماري: عائلات حبيب، المدور، غرغور، فيعاني، تماري، دجاني، المستقيم، البيطار، فار، عازر، نيكوديم، منطورة، حبايب، زمريا، روك، خرعوبة، متري، خياط، صباغة، ديك، وبيدس.
 في شهر أكتوبر تشرين الاول من العام 1949، وبعد احتلال يافا بسنة ونصف تقريباً، نجح السيد إسرائيل روكاخ في تحقيق حلمه، إذ قام بضم يافا إلى مدينة تل أبيب من دون مساعدة زملائه الماسونيين من أبناء تلك المدينة الجميلة، وذلك إضافة إلى ضم عدد آخر من القرى العربية المحيطة بمدينته، كان من بينها قرية الشيخ مونس التي عشقتُ رمالها وبحرها صغيراً... القرية التي أقام الصهاينة على أراضيها فيما بعد جامعة تل أبيب.

ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن معظم الذين انتسبوا للحركة الماسونية من العرب في بدايات القرن العشرين، وذلك بخلاف من انضم لعضويتها في النصف الثاني من ذلك القرن، كانوا يظنون أن الماسونية حركة اجتماعية إنسانية تستهدف تكوين صداقات بين العرب واليهود وغير اليهود، وتسعى لخلق رابطة اجتماعية تتيح لأعضائها فرص التعاون وتبادل المعلومات المتعلقة بالأمور التجارية والمالية والزراعية، وتقوية أواصر الصداقة بين أعضائها خدمة لمصالح متبادلة وقضايا مشتركة. كما كانوا يظنون أيضاً أن الانتساب لتلك الحركة لا يتعارض مع الولاء للوطن، أو مع الالتزام بالقضايا القومية. وعلى سبيل المثال، أخبرني السيد تماري أن يهودياً من أعضاء الحركة الماسونية زاره في مزرعة العائلة الكائنة في منطقة ناتانيا، وعرض عليه المساعدة في محاربة حشرة قاتلة تعتدي على الحمضيات وتتلفها. وبالفعل، قام السيد تماري بناء على إرشادات ذلك الشخص بزيارة مستعمرة نيتر، وهناك استقبله خبير زراعي كان في انتظاره، وقام بتزويده بكمية كافية من المبيدات الحشرية المطلوبة مع إرشادات واضحة بكيفية الاستعمال، كما زودوه في مناسبات أخرى بأشتال حمضيات وفواكه عالية الجودة. 

إن من المرجح أن غالبية أبناء العائلات الفلسطينية المذكورة أعلاه تركوا الماسونية منذ زمن مع موت الآباء، أو أنهم لم ينتسبوا لتلك الحركة، لكن من شبه المؤكد أيضاً أن البعض ورث العضوية عن الآباء والأجداد وما يزال عضواً عاملاً وفاعلاً فيها. وفي الواقع، قال لي أحد أبناء تلك العائلات أن والده وصل إلى درجة السيد الأعظم  Grand Masterقبل وفاته، أي أنه كان المسئول الأول عن نشاطات تلك الحركة في فلسطين والاردن، وأن شخصاً آخرا يعيش في أمريكا، ويدعي الوطنية ومعاداة الصهيونية، قال لي إنه وصل إلى درجة رئيس لنادي الليونز في المدينة التي يسكن فيها، وهي جمعية ذات نشاطات وأهداف وارتباطات مشابهة لنشاطات وأهداف الحركة الماسونية. وحين سألت ذلك الشخص الذي يُعتبر من وجهاء الجالية العربية حيث يُقيم عن النشاط الرئيسي الذي قام به باسم نادي الليونز، قال ببساطة، "كنا طول الوقت نجمع التبرعات لإسرائيل". لكن جمع التبرعات لإسرائيل كان بطاقة مرور مكنته من تكوين صداقات وإقامة علاقات مع أثرياء وشخصيات يهودية ذات نفوذ ساعدته على تكوين ثروة مالية تجاوزت عشرة ملايين دولار. 

وحتى بعد الهجرة، استمرت الحركة الماسونية في خدمة أعضائها ومساعدتهم على معاودة نشاطاتهم التجارية في الأردن ولبنان ومنطقة الخليج العربي. إذ أخبرني أحد أبناء مدينة يافا من الماسونيين على سبيل المثال أن شخصاً يهودياً هولندياً اتصل به من عمان في أحد الأيام من دون سابق معرفة ليقول له بأنه سيزور القصر الملكي في اليوم التالي، وأنه سيوصي المسئولين بالتعاون معه. وبالفعل، اتصل أحد المسئولين الحكوميين بالشخص المعني في اليوم التالي ليحيل عليه عطاء كبيراً لتوريد بعض المواد الغذائية للدولة. ويُلاحظ أن العديد من الوكالات التجارية المهمة في الأردن هي اليوم في أيدي أشخاص ينتمون إلى العائلات التي ارتبطت بالماسونية في يافا وجاء ذكرها أعلاه.

الماسونية جمعية سرية من حيث القيادة والهيكل الإداري، والهرم التنظيمي، والشعارات والإيماءات، والالتزامات المتبادلة تجاه الجمعية والآخر، تملك وسائل خاصة للتواصل فيما بين أعضائها ومساعدة كل عضو الى التعرف على غيره من الأعضاء حين يلتقون صدفة. وهذا فرض عليها التصرف كغيرها من جماعات متطرفة، ومنظمات سرية، وتنظيمات عنصرية، وجماعات إرهابية، وعصابات إجرامية، والتوجه نحو رسم خطط تآمرية تسعى لتحقيق أهداف تعود على أعضائها بالمنفعة، وتعود على الغير والمصلحة العامة بالمصائب. وتشير المعلومات القليلة المتوفرة عن الماسونية إلى أنها وصلت إلى فلسطين في القرن التاسع عشر مع المستوطنين اليهود الأوائل، وإلى أنها رسخت أقدامها في المنطقة العربية في ظل الاستعمار البريطاني في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، خاصة في فلسطين والعراق ومصر ولبنان. وحيث أن الغالبية العظمى من الناس ترث معتقداتها الدينية وأحياناً أفكارها ومواقفها وارتباطاتها المصلحية عن الآباء والأجداد، فإن الماسونية أصبحت جزءاً من تراث وتقاليد معظم العائلات العربية وغير العربية التي انتسب أحد أبنائها لتلك الحركة في الماضي القريب. وفي الواقع، أعتقد أن الكثير من رجال الأعمال العرب الذين أثروا خلال عهود النفط وفي منطقة الخليج العربي بالذات هم أعضاء فاعلون في تلك الحركة، مخلصون لمبادئها وملتزموين بتعاليمها... تلك التعاليم التي قادتهم لخدمة مصالح إسرائيل ومساعدتها على تحقيق أهدافها الاستعمارية التوسعية على حساب وطنهم وقوت شعوبهم وكرامة أمتهم.

مع أن الماسونية تدعي أن أهدافها إنسانية وخيرية، وأنها تشترط أن يؤمن العضو المنتسب إليها بوجود قوة عظمى واحدة، وأنها لا تخوض في قضايا دينية أو سياسية، إلا أن الهدف الأساسي لها هو خلق جمعية عالمية، يرتبط أعضاؤها بعضهم ببعض بمصالح مشتركة، اقتصادية ومالية وتجارية، عبر قنوات تعاون سرية، تخدم مصالحهم على حساب غيرهم من الناس والشعوب. وحيث أن المصلحة الاقتصادية أصبحت تطغى في عالم اليوم على الإيديولوجيات السياسية والعقائد الدينية والانتماءات القومية والثقافية، فإن من الصعب أن يقوم عضو في الماسونية بتركها لأسباب دينية أو وطنية أو أخلاقية، خاصة وأنها تعاقب من يتركها ومن يبوح بسر من أسرارها، كما تكافئ من ينتمي إليها ويخلص لمبادئها. من ناحية أخرى، يبدو أنه من السهل أن يقوم تاجر أو رجل أعمال أو وكيل شركة أجنبية أو سياسي طامع، حتى وإن كان ملتزماً دينياً ووطنياً بالانتساب لجمعية سرية تخدم مصالحه وتعزز موقعه في المجتمع، إذا ضمنت له عدم الكشف عن هويته وعلاقاته ودوافعه، فالمعتقدات الدينية والوطنية لا يترجمها العقل المصلحي إلى أخلاقيات ومبادئ ملزمة، بل تقاليد يمكن تجاوزها في سبيل الحصول على المزيد من المال والسلطة. 

أما فيما يتعلق بتاريخ الماسونية العالمية، فإن هناك من يدعي بأنها قديمة قدم التاريخ، وأنها تأسست كحركة يهودية في القدس في عهد الرومان قبل ميلاد المسيح، وهناك من يقول بأنها حركة اجتماعية ظهرت في أوروبا في أواخر القرن السادس عشر، وتبلورت أهدافها وهياكلها بشكل واضح في القرن الثامن عشر. وعلى الرغم من عدم معرفة تاريخ تأسيسها بدقة، ولا التعرف الى هوية وأهداف مؤسسها الحقيقي، إلا أن قيامها باتخاذ شعار يعود إلى هيكل سليمان المزعوم الذي يقال أنه أقيم في القدس عام 960 قبل الميلاد، جعلها ترتبط في ذهن المناوئين لها والمشككين في مراميها باليهودية، ومن ثم بالصهيونية. ولهذا وقفت الكنيسة الكاثوليكية ومن بعدها الإسلام موقفاً مناهضاً لتلك الحركة، اتجه إلى رفضها جملة وتفصيلا. ومهما قيل في هذا الخصوص، فإن نشاطات تلك الجمعية والخلفيات الثقافية والتطلعات السياسية والمصالح الاقتصادية لأعضائها تجعلها حركة عالمية ذات أطماع دولية، ترتبط بالحركة الصهيونية من خلال تشابك مصالح أعضائها، ما يجعلها تلتزم بخدمة أهداف إسرائيل وتخضع لأوامرها. ويعود السبب الرئيسي في ذلك إلى نجاح اليهود في السيطرة على عديد المؤسسات المالية والاستثمارية والتجارية الكبرى في العالم، وإلى هيمنتهم على الإعلام والإنتاج السينمائي وبيوت الدعاية ومكاتب الاستشارات القانونية وغير ذلك من جامعات ونشاطات بحثية وخدماتية وفنية واسعة. ويقدر عدد أعضاء الماسونية في العالم بحوالي خمسة ملايين شخص، معظمهم من الأمريكيين والأوروبيين. كما تشير المعلومات المتوفرة إلى أن العديد من رؤساء أمريكا السابقين وعدد كبير من قادتها السياسيين هم أعضاء عاملين في تلك الحركة، من بينهم نائب الرئيس الأمريكي الحالي السيد جو بايدن.

من ناحية أخرى، أخبرني الدكتور محمد علي الحلبي الذي ولد في يازور وأكمل دراسته الثانوية في يافا في أواخر الأربعينيات، وذهب بعدها إلى مصر حيث التحق بكلية الطب في جامعة الإسكندرية، أن عدداً لا بأس به من تجار يافا المعروفين قاموا ببيع جميع أو بعض ممتلكاتهم لليهود قبل وقوع النكبة وبعدها مباشرة، مقابل حصولهم على عقارات في مصر، وفي مدينة الإسكندرية بالذات. وعلى سبيل المثال، قام السيد على المستقيم (أبو موفق)، ببيع سينما "نبيل" التي كان يملكها في يافا والواقعة في شارع اسكندر عوض مقابل نصف سينما مترو الواقعة في شارع النبي دانيال في مدينة الإسكندرية، وأن عملية البيع والشراء والتوقيع تمت في قبرص حسب رواية السيد المستقيم للدكتور الحلبي شخصياً.
 وتجدر الإشارة هنا، وذلك بناء على رواية السيد لودفيج تماري، إلى أن السيد علي المستقيم كان عضواً بارزا في الحركة الماسونية في حينه، ونائباً لرئيس بلدية يافا السيد يوسف هيكل. إضافة إلى ما سبق، أخبرني الدكتور الحلبي أن السيد رشدي كنعان باع قبل وقوع النكبة مصنع النسيج الذي كان يملكه في قرية بيت دجن لليهود، وأنه هاجر من فلسطين إلى مصر للعيش والإقامة الدائمة فيها، وأن هناك عدداً آخر من الفلسطينيين الذين قاموا ببيع كل أو بعض ممتلكاتهم لليهود فيما بين عامي 1947 و1951، كان من بينهم السيد مسعود الدرهلي. إن طبيعة هذه العمليات وسريتها وتعقيداتها تجعل من غير الممكن أن تتم بدون شبكة العلاقات الماسونية الواسعة. كان الحلبي في شبابه أحد الطلبة العرب الناشطين في العمل القومي، ولذا شارك في تأسيس "النادي العربي" في مدينة الإسكندرية، وهناك تعرف الى السيد علي المستقيم الذي أبدى كرماً في تبرعه للنادي، وحماساً لدعم نشاطاته الطلابية والقومية. وهذا يعني أن قدامى العرب الذين انضموا للحركة الماسونية كانوا يظنون أن الإنتماء لتلك الحركة لا يتعارض مع انتماءاتهم القومية ومسئولياتهم الوطنية. أما من انضم للماسونية حديثاً فيعرف تماماً الهدف الذي تسعى لتحقيقه ومن يقوم بإدارتها، كما يعرفون الدور المنوط بهم خدمة لمصالح القوى الاستعمارية التي تهيمن عليها، وهي قوى تعادي طموحات الشعوب العربية وتعمل على تكريس تخلف العرب عن العصر وعن الشعوب المتقدمة.

 


Deprecated: Directive 'allow_url_include' is deprecated in Unknown on line 0