أعلنت الحكومة اليمينية الإسرائيلية في 6 حزيران 1982 الحرب ضد قوات منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، بدأته القوات الغازية بشكل مفاجئ وعلى غير المتوقع بالساعة الثانية من بعد الظهر وبإنزال بحري على شاطئ مفتوح مقابل مخيم البَصْ للاجئين بمدينة صور، وبعد توغل قواتها المدرعة في جنوب لبنان صاعدة شمالاً بعدة محاور، تجنبت أرتالها المتقدمة خوض معارك حاسمة ومكلفة ضد دفاعات المخيمات الفلسطينية (الرشيدية والبرج الشمالي والمعشوق قرب مدينة صور، وعين الحلوة قرب مدينة صيدا) أو التوغل بأحياء هاتين المدينتين الكبيرتين، وذلك بغرض تحقيق معدلات تقدم مدرعة سريعة باتجاه هدفها الاستراتيجي حيث مقر قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها في الشطر الغربي من العاصمة بيروت، فعملت على تنفيذ مناورة التثبيت والتخطي بترك وحدات فرعية مسندة بسلاحي الطيران والبحرية لمشاغلة تلك النقاط الحصينة على أن يتخطاها الرتل الرئيسي المتجه شمالاً، كما نفذت البحرية الإسرائيلية وبمظلة جوية قوية عدة عمليات إنزال بحري لدبابات وناقلات جنود وعمليات إبرار محدودة بطائرات الهليوكبتر، متوخية مسك عقد المواصلات الهامة لمساندة تقدم رتلها المدرع على محور الطريق الساحلي الرابط بين مدن صور وصيدا وبيروت، ولإحداث تقطيع أوصال بين القوات الفلسطينية وإرباك خططها الدفاعية.
نجحت القوات الغازية المندفعة على محور الجبل من الإقتراب من التماس مع القوات المدافعة جنوبي بيروت، بعد سلسلة من المعارك الدامية وأهمها ما دار في منطقة قبر شمون وعيتات، وتقدمت داخل المنطقة الشرقية من بيروت بسرعة لتطوق الشطر الغربي من العاصمة، وبتعاون مطلق من القوى الإنعزالية وعلى رأسها حزب الكتائب اليميني، كما نجحت القوات الغازية من التغلب على العقدة الدفاعية الحصينة في منطقة خلدة بعد معارك متتابعة وضارية مع القوات الفلسطينية المدافعة بقيادة العقيد عبد الله صيام من جيش التحرير الفلسطيني، ولتتقدم بعدها باتجاه مطار بيروت الدولي بغرض إحتلاله.
استكملت قوات الغزو الإسرائيلية إحكامها حصار الشطر الغربي من بيروت في 13 حزيران، أي بعد إسبوع من إعلانها الحرب، فيما كانت المعارك متواصلة وعلى أشدها في الجنوب اللبناني، واتخذت القوات الغازية مواقعها على طول خط التماس الذي يفصل شطري العاصمة بيروت عن بعضهما، وبعد إحكام الحصار أسندت القيادة لفصيلي مهمة الإستطلاع وتم إلحاقنا بمقر عمليات جبهة التحرير الفلسطينية، فيما كنت قبل الحصار في منطقة الدامور والناعمة جنوبي منطقة خلدة قائداً لفصيل مُعزَّز.
قبل إستهداف الطيران الحربي الاسرائيلي لمبنى العمليات المركزية للجبهة قرب المدينة الرياضية وتسويته بالأرض، والذي كنا قد أخليناه مسبقاً لتوقعنا تلك الضربة، اتخذنا مقراً بديلاً بحي الفاكهاني، ووردت معلومات للرفيق أبو العباس نائب الأمين العام للجبهة أن مقرنا البديل سيتم أيضاً إستهدافه، فأرسل لي برقية شفوية بضرورة تنظيمي إخلاء المقر بعد تأمين البديل وقد أنجزنا مهمة الإخلاء وفتح المقر الجديد بسرعة فائقة بالتعاون مع أصدقاء للتنظيم، وفعلاً كانت معلوماته دقيقة حيث قام الطيران الحربي الإسرائيلي وللمرة الأولى منذ اندلاع الحرب بتنفيذ قصف جوي لهدف حيوي ليلاً.
وشائت الصدف أن يكون مقرنا البديل خلف مشفى البربير الواقع على شارع كورنيش المزرعة، وكان المقر الجديد يبعد مئات الأمتار عن المواضع الإسرائيلية في قاطع المتحف – سباق الخيل، فكان من أولى واجباتي أن أقوم باستطلاع هذا المحور والذي يعتبر من أهم وأخطر المحاور، وحيث أن مقرنا كان يقع بالشارع الفرعي الموازي لمحور المتحف، فقد أسندت موقعاً متقدماً للجبهة يقع في نهاية هذا الشارع المتعامد مع خط التماس الفاصل، ومن الجهة الأخرى باتجاه المواضع الإسرائيلية كان مقر المحكمة العسكرية اللبنانية وبداخله حراسات من الجيش اللبناني، كان لدي تخوف من أن تقوم القوات المعادية بخرق حياد مقرات الجيش اللبناني واقتحام المحكمة للنفاذ عبر موقعنا المقابل لهم والتقدم باتجاهنا، كي تعاون إتجاه الهجوم الرئيسي على محور المتحف – سباق الخيل وللتقدم سريعاً على شارع كورنيش المزرعة باتجاه عمق مناطقنا.
وللوقوف على الموقف تفصيلياً بالمحور ومعرفة حجم وتوزيع القوات المعادية بشكل أفضل، كان يتوجب علي زيارة المقدم عطية عوض قائد الكتيبة 13 من قوات حطين التابعة لجيش التحرير الفلسطيني، وكان أحد رفاقنا المقاتلين من اقربائه من مخيم خان الشيح القريب من جبهة الجولان، فأعلمه رغبتي بزيارته فرحب بذلك، وعند وصولنا لموقعه في مضمار سباق الخيل لمحت الأخ القائد أبو جهاد (خليل الوزير) خارجاً من الموقع وكان يقود سيارته أخي الأكبر وسيم الجيوسي وبدون أية حراسات مرافقة له.
كانت فرصة طيبة للتعرف على ذلك الفارس الوطني الشجاع المقدم عطيه عوض عن كثب، وبعد استكمالنا الإستطلاع من منطقة مسئوليته أرسل معنا نائبه لنستطلع الوضع الميداني أيضاً من الكتيبة المجاورة له والساندة لجناحه الأيمن (أظنها الكتيبة 15 من نفس القوات)، وكان جناحه الأيسر مستند على جسر هنري شهاب الواقع بأول شارع كورنيش المزرعة وخلفه كانت المباني الواقعة بينه وبين شارعنا الفرعي، حيث كانت تتواجد بكثافة مجموعات من الفصائل الفدائية (حركة فتح والجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية وجبهة التحرير الفلسطينية) ومن الحركة الوطنية والتقدمية اللبنانية (تنظيم الناصريين المستقلين – المرابطون والحزب الشيوعي اللبناني وحزب البعث العربي الاشتراكي – جناح العراق)، إضافة لبطارية صواريخ مجرورة من نوع كورال – عيار 107ملم (12 سبطانة) تابعة لكتيبة المقدم عطية عوض.
وعلى الغداء في مقر كتيبته تحدث مضيفنا باستفاضة عن احتمالات الموقف، كان متأكداً أن قائد اللواء الإسرائيلي المقابل له سيقوم بهجوم من خلال المحور باعتباره الأخطر، حيث أن نجاحه بكسر الدفاعات الفلسطينية – الوطنية اللبنانية واندفاعه باتجاه مناطق الروشه والرملة البيضا والفنادق ستمكنه من فصل بيروت الغربية إلى شطرين، حي الفاكهاني حيث المقرات القيادية الفلسطينية ومخيمات صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة والضاحية الجنوبية وحي الصفير في جهة، وبالجهة الأخرى باقي أحياء بيروت مثل البسطه والحمرا وخندق الغميق ووادي أبو جميل وفردان في الجهة الأخرى، فيسهل تقطيعها إلى مربعات للتعامل معها لاحقاً.
ولمعالجة إمكانية دفع اللواء المدرع لدبابات وكاسحات ألغام من حرش الصنوبر المجاور للمبنى الذي يشغله، بعد فتح ثغرات بسور سباق الخيل وفتح مجازات بحقل الألغام والتقدم من شارع عمر بيهم إلى شارع كورنيش المزرعة، قام قائد الكتيبة بتلغيم الحرش ووضع مفارز مهمتها قنص الدبابات، وبلا شك كان مقصد الأخ أبو جهاد الوزير في زيارته الإطمئنان على الوضع على هذا المحور الساخن، والتأكد من تكامل عناصر الخطة الدفاعية، وتأمين أية نواقص وخاصة قذائف الآر بي جي (RBG -7) والألغام المضادة للدبابات.
استجابة للتهديد المحتمل قمت بتوزيع الفصيل إلى مجموعات في كل مجموعة قاذفي آر بي جي ورشاش متوسط، دفعت بمجموعة لإسناد موقع الجبهة المتقدم على خط التماس ومجموعتين على يمين ويسار الشارع أمام مقر العمليات تقدمان الإسناد لبعضهما بالنار ومجموعة بالخلف قرب مقر إداري لجيش التحرير ومجموعة معي بالأمرة.
ليلة يوم 3 على 4 آب كنت ضابطاً مناوباً بمقر عمليات الجبهة، ووردت معلومات للأخ القائد العام ياسر عرفات أن الهجوم الإسرائيلي المدرع على محور المتحف سيكون فجر يوم 4 آب، لذلك تم اخلاء النساء والأطفال من المنازل القريبة من خط التماس، كان قبلها على ما أذكر وقف لإطلاق النار بين الجانبين، ولم يبلغني الموقع المتقدم بأية تغييرات أمامه.
قبل انبلاج الفجر بقليل تركت قاذف الآر بي جي الخاص بي مع الرفاق المناوبين معي في مدخل المبنى المقابل لمقر العمليات، وصعدت إلى السطح لأستطلع الوضع، لم يكن هناك ما يريب، ومن خلال عدسات منظاري العسكري ميزت مبنى المتحف ذو اللون الوردي والمميز عن ما يجاوره من مباني، وفجأة وبلا سابق إنذار انفتحت طاقة جهنم، الدبابات الإسرائيلية وأمامها كاسحات الألغام تتقدم بسرعة من جوار المتحف قاصدة جسر هنري شهاب، عشرات قذائف الدبابات وآلاف الطلقات الحمراء تنفجر بالمباني المتراصة على يمين ويسار شارع كورنيش المزرعة، لم أعِ كيف وصلت الطابق الأرضي قفزاً نازلاً درج المبنى، اختطفت القاذف المجهز بقذيفة وركضت من مدخل المبنى باتجاه الشارع الفرعي وأخذت وضعية الرمي، حيث قدَّرت أن الدبابات الإسرائيلية تتقدم أيضاً على هذا الشارع من جهة المحكمة العسكرية كمحور ثانوي مساند للجهد الرئيسي الذي رأيته، ومن بين دخان القصف الكثيف رأيت شارعنا خالياً تماماً من أي تقدم معادي.
بسرعة تفقدت جاهزية المجموعات الأربعة حسب الخطة الموضوعة مسبقاً، وتقدمت ومجموعتي لإسناد موقع الجبهة المتقدم، ورغم أن المسافة ليست كبيرة إلا أننا استغرقنا وقتاً للوصول بسبب كثافة القصف المعادي والقذائف تنفجر حولنا، الرفيق أبو الغضب (لبناني كردي) مسئول الموقع زودني سريعاً بالموقف، فتعاملنا بسرعة مع تجمعات معادية كانت تستعد لإسناد الرتل المعادي الذي بدأ الهجوم، ومن بين المباني تمكنا من الوصول إلى قرب شارع كورنيش المزرعة حيث كانت الملحمة، فقد صبت كتيبة المقدم عطية عوض نيرانها الجانبية من جهة اليمين على الرتل المعادي المتقدم، ومن اليسار تعاملت مجموعات القوات المشتركة بغزارة نيران قوية مع ذلك الرتل والذي علق أيضاً بالألغام على جسر هنري شهاب، والصواريخ الفلسطينية وقذائف الهاون تنزل كالمطر على التجمعات المعادية بالمنطقة، بطولات لا يمكن اختزالها بكلمات وصور لا زالت بذاكرتي منذ 38 سنة لا تبارحها، كان لتنظيم الناصريين المستقلين (المرابطون) دبابة T-54 على يسار شارع كورنيش المزرعة لم يتركها طاقمها لحظة، وتصدت للتقدم المعادي ولم تصب بأذى، رأيت سيارة عسكرية تحمل مدفع B-10 مضاد للدبابات تابعة للرفاق بالحزب الشيوعي اللبناني يقذف حممه بلا انقطاع باتجاه الرتل المدرع المعادي ولا يأبه للقذائف المعادية المتساقطة قربه، شباب وأشبال تخرج من بين الأزقة لترمي قذائف الآر بي جي باتجاه الغزاة.صوت الكاتب رشاد أبو شاور جاء هادراً قوياً من صوت فلسطين – صوت الثورة الفلسطينية، والذي أسرع راكضاً باتجاه الاستوديو عندما بدأت المعركة، وعلى ما أذكر من كلماته التي ارتجلها مخاطباً بها المقاتلين واختلطت بأصوات الإنفجارات ولعلعة الرصاص: تذكر حليب إمك واضرب عدوك ... تذكر صلاح الدين وارمي، تذكر دير ياسين تذكر القدس والأقصى... .
انكفأ الغزاة طالبين وقفاً جديداً لإطلاق النار الذي هم بالأساس من خرقه، وذلك بعد تدمير عشرات الدبابات المقتحمة، وخرج المقاتلين مبتسمين إلى الشارع ومحتفلين، صافحنا المقدم عطية عوض الذي وجدناه مشغولاً بالتحضير للجولة التالية، وبتواضع القائد الفدائي قال يعطيهم العافية كل الشباب... هم الأبطال الحقيقيين من صنعوا مجد الإنتصار على الغزاة، أما قائد المحاصَرين الفدائي ياسر عرفات فتهكَّم على مُحاصريه أمام مراسلي وكالات الإعلام الأجنبية عندما سألوه ماذا حققت القوات الإسرائيلية من نتائج بهذه المعركة؟؟ أجابهم بابتسامة سخرية عريضة أنهم تقدموا متر ونصف أي بما يساوي نصف طول مدفع الدبابة الإسرائيلية.
عدت لمقر عمليات الجبهة عند الظهر متعباً مرهقاً، غلبني النوم وأنا أقدم تقريري الشفوي عن مجربات المعركة كما عشتها لقائد قواتنا الرفيق على إسحق ...، قال لي الشباب عندما صحوت إن القائد وبحنان أبوي أحضر شرشفاً وغطاني عندما رحت في نوم عميق، لقد كان بحق يوماً صعباً.
إضافة تعليق جديد