عصفت بالأمس مناخاتنا بالمواقف الرافضة لقرار القيادة الفلسطينية استئنافها العلاقات مع الطرف الإسرائيلي الذي أبدى استعداده الالتزام باتفاقاته مع منظمة التحرير الفلسطينية، ذات الأطراف الرافضة كانت قد شككت شباط هذا العام بإعلان القيادة قطعها لكافة العلاقات مع الجانب الإسرائيلي والإدارة الأميركية خلال الجلسة الطارئة التي جمعت وزراء خارجية الدول العربية وجاء رداً على رؤية ترامب للسلام والازدهار في المنطقة. كما شككت لاحقاً بجدوى قرار المنظمة الذي أُعلن عنه في اجتماع لقيادتها أيار الماضي، وبأنها في حلٍ من كافة " الاتفاقات والتفاهمات مع الحكومتين الأميركية والإسرائيلية" التي وُقِعت تجسيداً للإرادةٍ الدولية، حيث لا مجتمع دولي وبظل أزماته المتعددة معنيّ بإدارة أي حراك خاص بالصراع في منطقتنا، ولا واقع عربي مُهيّأ بحيث يدرك حجم مخاطر استمراره على دوله، التي عانت ولا تزال انعكاساته المتباينة بتوصيفاتها والمشتركة بمنهجية صُناع الفوضى الخلّاقة، التي تتبنى تعزيز النزاعات العقائدية والطائفية بهدف التجزئة.
في ذات الاجتماع كان الرئيس (محمود عباس) يتبع الإعلان عن القرار بتجديد الالتزام بحل الصراع على أساس حل الدولتين على أن تجري المفاوضات بهذا الشأن تحت رعاية دولية متعددة وعبر مؤتمر دولي للسلام يستند للشرعية الدولية (ما تجاهلوه خياراً حينها). العديد من الحاضرين أو المُتابعين له من عناوين الخارطة السياسية الفلسطينية كما النخب تعتقد دوماً أن الأطراف كافة هي الأقوى إلا الفلسطيني فهو لا يملك ما يُعزز موقفه المُعلن ! في الجلسة نفسها انسحب أحد الأطراف بذريعةٍ لم تتصل ومضمون التداعي الهام فهو غير ملزم بأي قرار وطني جامع (تاريخياً) لكنه الجزء الحاضر دوماً في كل قِطاف. طرفُ آخر أعقب الجلسة بموقفٍ يُطالب فيه الرئيس الفلسطيني بترجمة الإعلان واقعاً على الأرض، في الوقت ذاته كان يحرص على استمرار العمل باتفاقات التهدئة مع الجانب الإسرائيلي في قطاع غزة! بخلاف المواقف المتناقضة لدى أطراف متعددة في المشهد السياسي، كما حركة "فتح" بداخلها.
وعودةً للمواقف الغاضبة على القيادة وإعلانها؛ ودون استعراضٍ لمنطلقاتها أو سياقاتها الحقيقية وطبيعة أدوار أصحابها الفعلية في المشهد الفلسطيني، نجد أنها في معظمها تُطالب القيادة الفلسطينية (معظم الرافضون بالمستوى السياسي الأول هم جزء فعليّ منها) بقليلٍ من منطق وبإخراجٍ مختلف (برّاق) لقرارها باستئناف العمل على أساس الاتفاقات مع الجانب الإسرائيلي، رغم أنهم كثفوا تساؤلاتهم مؤخراً عن جدوى عدم استلام أموال المقاصّة واستمرار الأزمةً الاقتصادية! لكن الأطراف ذاتها لم تحرص على حضورها في ميدان المقاومة الشعبية أو تُعلي صوتها لتفعيل الخيار الذي استند له قرار قيادة المنظمة بوقف العلاقات مع الجانب الإسرائيلي. الأدهى في هذا السياق أن هذه الأطراف بسوادها تعتمد في أحكامها واتهاماتها على المعادلة (نتاج أحد مناح الصراع-الحرب النفسية) التي ترهن القرار الوطني الفلسطيني للمتغيرات والمواقف الأميركية والإسرائيلية وغيرها من الأطراف، متجاهلةً للمعادلة الفعلية في صراعنا مع هذا الإحتلال وقواه الحليفة المكونة من عناصر فلسطينية التركيب، حيث الشعب يسطر صموده على أرضه سداً أمام مشروع الاحتلال التوسعيّ وقيادته التي اجترحت لعقود وطنيته وهويته تستمر متسلحةً بالإرادة الشعبية في مواجهة الاحتلال وسياساته وممارساته.
غَضِبَ هؤلاء الرافضون لقرار القيادة بالأمس، لكنهم وفي ذات الوقت الذي تراجعوا فيه فعلاً وقولاً شككوا بالمنهجية الوطنية برمتها رغم شعاراتهم الصادحة بها، ونداءاتهم المتكررة لقلب الطاولة على رأس هذا الإحتلال حالاً و الذهاب لمواجهة شاملة معه وبكافة المستويات مهما كانت الأثمان. كما أن معظمهم سواء انخرطوا ضمن أطرٍ جَمْعية أو أسماءٍ وازنة بفضاءات الوطنية والنخبوية على اختلاف مجالاتها، لم يكلفوا ذواتهم (النفعية) السامية (نضالياً) الانتصار للفلسطيني الذي دفع الأثمان غالياً فور الانتفاضة الثانية التي جسدت التوجه والقرار الفلسطيني حينه لمواجهة السياسات الإسرائيلية المتنصلة من الاتفاقات واقعاً، فلا الشهداء قيماً وطنية بفعلهم خلّدوا ولا ذويهم تابعوا، أما قضيتنا المقدسة (قضية الأسرى) فلا لنداءاتهم لبّوا ولا لذويهم بآلامهم أعانوا.
ودون الاستفاضة في معظم قضايانا الوطنية والبحث فيما إذا حقق أولئك المنتفضون الغاضبون لها انتصارات، نتوجه لهم بالسؤال استناداً لتأويلهم قرار القيادة بالأمس وأنه جاء ضربةً قاسمة للجهود المبذولة في مسار الوحدة الوطنية، أين كانوا ومواقفهم من المساعي التي تبذلها حركة حماس لرفع حصتها من المنحة القطرية للعام القادم الواصلة عبر مطار البوابة الإسرائيلية ! ألم يجدوا فيها إشارةً لتوجهات حماس الحقيقة بخصوص المصالحة؟ ولنغض الطرف عن تفنيد العديد من المواقف الرافضة تلك، على ماذا احتوت جعبهم من برامج تُمكن الشعب على الثبات والصمود في وجه الإحتلال الإسرائيلي ومنذ شباط الماضي، وما الذي خاضوه تعزيزاً لقرار المنظمة حينها ؟
لا شك بأن قرار القيادة أتى بالأمس نتيجةً طبيعية للمواقف الفلسطينية التي فرضت على العالم إدراك ثباتها وضرورة المُضيّ على أساسها، ودون الخوض تدليلاً لدورها في إفشال خطة ترامب وإلزام العالم بما أقره عبر شرعته الدولية بخصوص حل الصراع وصون مكانة قضيتنا العادلة، نشير إلى حجم الجهود التي بُذلت عربياً ودولياً (بعيداً عن الإشارة للضغوط التي مورست على الرئيس (محمود عباس) لثنيه عن مواقفه بل وتهديده) لإيجاد السبل الممكنة في التخفيف من حدة الموقف الفلسطيني لصالح الطرف الإسرائيلي، الذي أدرك تماماً جديته وانعكاساته الخطيرة عليه مما دفعه للبحث عن الوسطاء في هذا الشأن. ولا يمكن لنا هنا أن نتجاهل حراك كافة الأطراف المحيطة بنا وبكافة المستويات المُنطَلِق من قرائتها للمتغيرات في المشهد الخاص بالولايات الأميركية المتحدة.
الهام في هذا كله هو أن الشعب الفلسطيني يعايش قسوة الواقع الذي أنتجته سياسات الإحتلال الاستعمارية وعلى مرّ العقود، الحال الذي يتطلب موازنة قراراتنا الوطنية بمجملها، المنهجية التي تتبعها القيادة بعيداً عن الشعارات العاطفية التي لا جدوى من إطلاقها على مسمع جماهيرنا الواعية. لكن وفي هذا المقام لا يمكن تجاوز ركاكة الأداء وفي مجالاتٍ متعددة، فأين هي تلك الأطر التي تُعنى بالجماهير (بعيداً عن الخدماتية) من إسناد القرار الوطني والقيادة الفلسطينية؟ تلك التي تفيض بالموارد البشرية وتفتقد للإنتاجٍ المتصل وتعزيز الصمود والوجود والتضامن وشعبنا. الأصعب هو فشل المنظومة الإعلامية الحالية من تعزيز ثقة الجماهير بقيادتهم الوطنية وقرارتها (وما طريقة ولغة الإعلان عن القرار إلا خير دليل)، ومن حماية الرئيس الفلسطيني من التهديد الآخر المرتبط وطبيعة موقعه لا شخصه فقط، يبرز عجز المنظومة تلك بموقف القيادة عندما تجد نفسها أمام التساؤل : مصالح الشعب أم رضاه.
إضافة تعليق جديد