" إن أقسى أنواع الموت هي هذا الموت الذي لا صوت له، لا أحد يسمعه، يظل مدفوناً خلف الجدران، يندثر في الصدى والنسيان، فلا تكونوا أيها الناس مشاركين في هذا الصمت، حنجرتي مخنوقة ولكن الموت يتكلم، من يصغي ويحرك أوتار حنجرتي ويسمعني الآن. اكتب بحبرك عني وعبّر .. فزنزانتي خرساء صامتةٌ كالقبر، اكتب ولا تخف فأنت حر.. أما أنا أسيرٌ أتجرّع المر" .
بهذه الكلمات خاطبنا كمال منادياً علّنا ننتفض من عجزنا، لكن وكما يبدو فقد غلبنا الصمت وصممنا آذاننا فتنكرنا لصوته وأمله.
بالأمس أحييّنا جموعاً وأفراداً الذكرى السادسة عشر لرحيل الشهيد الرمز (ياسر عرفات) فانهالت كلماتُنا المُعاهِدة بالوفاء والاستمرار على دربه درب الشهداء والمُضي بحمل الأمانة! وألقينا بالكوفيات فاعتمرت أكتافنا ولففناها حول رقابنا فاستطالت شموخاً، في إشارةٍ على التمسك بنهجه وصون رمزيته، بل إن البعض الغاضب ذهب بعيداً وبأنه لن يُمرر رفع صور الآخرين على جدراننا المتنوعة بخلاف صورة الرمز فلا قائد غيره ولا صادق أمين دونه فهو فقط حق الرجال! بذات الوقت الذي نتنكر فيه لِما جَهده وغرسَه منذ عيلبون الثورة حتى رحيله جسداً وفي مواقفٍ عديدة لا حصر لها، فلا عهدنا له أوفينا ولا حق جنوده حفظنا بل أمسى التمسك بنهجه محط استهزاء العديد (المُنهزم) وبأن زمن الأحرار انقضى وأمسى بائدا، الأهم أننا تجاهلنا استغاثة أبنائه الذين لبوا نداءه وكانوا لقراره بخوض المعركة خير الجنود، لنتركهم (لحمنا الحيّ) وسط العتم وحيدين لتنهشهم أنياب السجّان ويفتك بهم صقيع الجدران، لنداءاتهم أدرنا الظهر ومضينا في سبيل الحياة؛ الحياة التي منحونا إياها كرامةً من أعمارهم وأجسادهم.
التحق كمال أبو وعر بقوات الــ (17- تبعت مؤسسة الرئاسة سابقاً) والتزمَ بقرار القائد العام (أبو عمار) لينخرط في معركة التصدي لاجتياح الإحتلال الإسرائيلي، خلال انتفاضة الأقصى التي كانت الرد الفلسطيني على اقتحام رئيس الوزراء الإسرائيلي (أرئيل شارون) للمسجد الأقصى أيلول عام 2000، الانتهاك الذي تَرجمَ حقيقة الموقف الإسرائيلي المتنصل من التزامات الحل النهائي بحسب اتفاق أوسلو، إضافةً لعدم تطبيق الطرف الإسرائيلي للعديد من الخطوات التي تم الاتفاق عليها حسبما أقرته الاتفاقيات حينها، واستمراره في سياسة الاغتيالات والاعتقالات والاجتياحات لمناطق السلطة الفلسطينية ورفض الإفراج عن الأسرى، وبناء المستوطنات واستبعاد عودة اللاجئين والانسحاب لحدود حزيران 1967. تقدم كمال كما العديد من أبناء شعبه بفئاتهم المختلفة في معركة الدفاع عن القرار والحق الفلسطيني، نتج عنها آلاف الشهداء والأسرى والجرحى إضافةً لهدم المقدرات وبنية السلطة الوطنية.
اعتُقِل كمال عام 2003 كما العديد من رفاقه حيث كُتب لهم ألا يلتحقوا بركب الذين ارتقوا مجداً للعُلا، فغدو فوق الأرض لا تحتها كما رفاقه (مهند أبو الحلاوة وعمر قعدان وكمال الطوباسي) وغيرهم من الأبرار. كان مؤمناً بالفكرة فالتحق طفلاً بصفوف حركة "فتح" التي فيها صاغ إرادةً لا تلين، وكما غيره قرر شاباً النضال درباً له الأمر الذي يتساوى فيه كافة أبناء "فتح" على اختلاف مراتبهم ومواقعهم فالكل بذات المسار متطوعون. يشهد رفاقه كم كان مناضلاً شجاعاً أصيلاً ذو مروءة وشهامة. في أحد المواقف خلال تلك الانتفاضة لم يتقبل إنسانه رؤية أحد جنود الإحتلال وهو يتحرش بصبية فلسطينية على أحد الحواجز الاحتلالية قرب مدينة نابلس فانتفض غاضباً ليهاجم الجندي ويطعنه ثأراً لكرامة بنتاً من بلده، حوكِمَ بالسجن ستة مؤبدات وخمسين عاما، كان قد خاض فور اعتقاله تحقيقاً قاسياً استمر لأكثر من مئة يوم بعد أن اقتيدَ لجهةً مجهولة.
لن نستعرض هنا ظلام المعتقل وفاشية السجّان، وكيف تمر الأيام على بناتنا وأبنائنا فيه سنيناً ثقال، لن نصف رحلة البوسطة العذاب الآخر، ولا تلك المشاعر التي تعتصر نفس الأسيرة أو الأسير وجعاً يسلب زيارة الأحباب وهجها ووقعها على إنسانهم المكبل بزرد السلاسل، أو أن نتتبع عملية مكافحة حشرة البق التي تنال من فراشهم وأجسادهم ودمائهم بليالِ آب اللاهبة، لن نسرد تفاصيل الوجع الحقيقي وهم في خضم العلاج مقيدي الأيدي والأرجل بأسرة المستشفى في غرفِ معزولة عن الحياة والبشر وكيف يسترقون النظر أحياناً بلحظاتٍ هاربة فتقربهم من ملامحٍ إنسانية حيث المرضى الآخرين وسط ذويهم يشاركوهم الآلام.
ولن نزعج البعض المُتجاهل؛ المنغمس بملذات المواقع والمناصب المزهوّين بالرتب الفاقدة لجوهرها فعلاً ونكرر على مسامعهم وقع تلك اللحظات الصعاب التي خاضها كمال رحلة عذابٍ لا علاج، وكيف واجه القهر كما أحرارنا خلف القضبان ، ووحشة الزنزانة، وتنكيل وحدات (المتسادا ودرور واليماز) لمعزلهم القسري، ولن نؤكد كذلك لهذا البعض؛ كيف تسلح كمال كما زملاء الأسر بالإرادة التي تجاوزت حدود المعتقلات لتصنع مجداً يختبئ خلفه المنهزمون والمزيفون بين مناسبةٍ وأخرى شعاراتٍ برّاقة، وكيف تركنا ذويهم وأهاليهم وحدهم يتجرعون عذابات بناتهم وأبنائهم.
استصرخنا كمال مراتٍ ومرات؛ لا لننقذه من الموت الذي كان متقيناً من حتميته، لكنه كرّس ولآخر لحظةٍ نبض فيه قلبه حواسه ليحمل الأمانة الغالية وينتصر للقضية المقدسة، وأبى إلا أن يمارس النضال معلياً الصوت عساه يوقظ ضمائرنا الغافية في سباتٍ مُخجل، ليحثنا كي ننتصر لرفاق الأسر من أطفال ونساء ورجال وسلّم الروح لبارئها. وهاهو جسده الطاهر رهن الإعتقال فلا الأهل قادرين على ضمه للمرة الأخيرة، ولا امتلك الرفاق فرصة إلقاء نظرة الوداع الأخير، ولم يلتف جثمانه بالعلم الفلسطيني ولا التراب المرويّ بالدم الطاهر سيحتضنه كما حظيّ رفاقه الذين سبقوه عناويناً للعز نحو السموات العُلا.
وصفنا كمال في آخر وصيةٍ له بأننا أحرار وبأنه "أسير يتجرع المر.."، بخلاف الوصايا الأخرى التي أدرك فيها حالنا وواقعنا العصيب، لكنه لم يعلم بأنه الحر وأننا أسرى عجزنا وفعلنا القاصر، وأننا امتهنّا الصمت ختماً يُمكننا من الاستمرار نحو حياةً لا حروفاً (فلسطينية الحبر) بقادرة على تضمينها كلماتٍ في سطور وطنيتنا، وبأننا تجاهلناه في كل مقامٍ ما أمكننا ذلك. غادرنا كمال؛ ولن يردد ما غناه سميح شقير " هي يا سجّاني .. هي يا عتم الزنزانة " إذ أنه تحرر من عتمة الجدران ليلتحق بالنور وبرحمة الله هو الآن، أما نحن فبتنا أمام مئات ومئات من (كمال أبو وعر) خلف الزنازين لنجد أنفسنا أمام التساؤل الكبير: هل بإمكاننا الانتصار لهم وألا نكرر خذلاننا كما خذلنا
إضافة تعليق جديد