نشيد الوداع الأخير قصيدة للشاعر ابراهيم نصر الله

الاثنين, يونيو 14, 2021 - 02

الشاعر : إبراهيم نصر الله

في ذكرى استشهادها يقتل العدو الصهيوني 67 طفلة وطفلا آخرين. نشيد الوداع الأخير. هذه هي القصيدة الأخيرة من ديوان "مرايا الملائكة" - سيرة شعرية للطفلة الشهيدة ابنة الشهور الأربعة "إيمان حجّو" التي أسشهدت بقذيفة دبابة صهيونية في مثل هذا الشهر قبل عشرين عامًا في غزة. نُهديها اليوم إليها ثانية وإلى كل شهيداتنا وشهدائنا طفلات وأطفالا. القصيدة على لسان الأم.

 

 

المسافةُ ما بين صدري وصدرِكِ تتَّسعُ
المسافةُ بين سريرِكِ والعتباتِ
وبين ملابسِكِ البِيْضِ والصيفِ تتّسعُ
والذينَ مضوا لترابِكِ  لن يعرفوا أبداً 
أيُّـنا في الترابِ هنالكَ يا وردتي أَودعوا!
كنتُ أعدو كما لو سأثقبُ هذا الفضاءَ 
ولكن موتاً بقسوةِ هذا.. هوَ الأسـرعُ
قربَ وجهي ترفُّ عصافيرُ روحِكِ
أجنحةٌ ضحكاتٌ وأرضٌ بحجمِ جبينكِ
صمتٌ عميقٌ.. ولكنهُ يا ابنتي يُسْـمَعُ
كان يكفي لأن تكبُري ههنا: 
غرفةٌ وسريرٌ ونافذةٌ، ربما، أوسـعُ
وطريقٌ إلى البحرِ.. خبزٌ وشايٌ
ونخلٌ على مهلهِ يتصــاعدُ 
لا الشرفاتُ تطاولهُ، لا
ولا الحزنُ في ظلِّـه طالـعُ 
قربَ عينيكِ، كنتُ بنَيتُ سماءً
وعَلَّقْتُ فيها نجوماً وشمساً 
وأنشدتُ في السرِّ
كي لا تفسِّرَني دمعةٌ خـطأً: عالـمٌ رائعُ 
حُلُمي أنتِ، أغنيةٌ تتفتَّحُ بين يديَّ
زماني الجميلُ الذي لم أعشْهُ 
الفتاةُ التي سوفَ تشبه تلكَ 
التي قد حَلُمْتُ بها، ذاتَ يومٍ، 
وأعني أنا 
حين تمشي يسيرُ إلى جنْبِها 
هكذا فارعاً.. حُلْمُها الفارِعُ
تعرفينَ ولكنني لم أصلْ 
كان ينقُصُني يا ابنتي الشّارعُ!
هكذا، كنتُ أصحو
وأغْزِلُ أجنحةً للفتاةِ التي بينَ جَنْبَـيَّ 
أَحْلُمُها
ذاتَ يومٍ ستحبو.. ستمشي وتركضُ
يحرسُ خطوتَها شاطئٌ 
ويَرى روحَهُ في براءة لفْتَتِها وردةً  بَحْرُنا الشّاسِعُ
وفي كلِّ أغنيةٍ ستكونُ هيَ المَطْـلَعُ
ثَمَّ شيٌ تغيّر في لحظةٍ
وعلى أرضِ روحيَ هبتْ رياحْ 
حَمَلَتْ معها الأُفْقَ.. كلَّ الجهاتِ
اختلاطَ الفصولِ 
صعودَ الزّهورِ لأعلى الصّباحْ
حَمَلَتْ معها يقظتي ويديَّ
خطايَ التي حَلُمَتْ أن تكونَ لخمسِ دقائقَ لو مرةً زُرْقَةً 
أو جناحْ
حَمَلَتْ معها نصفَ روحي 
وأَلْقَتْ بما قد تبقّى لهذا النُّـواحْ
هل رأيتِ جراحاً تجوعُ 
فتأكلُ نازفةً في الظّلام الجراحْ؟!
رياحٌ رياحْ
سحبتْ شاطئَ البحرِ من تحتِ رأسي
وسارتْ على مَهْلِها 
فكأني هنا لم أكنْ لم تكوني
ولم يكُ تحتَ الثياب هنا أحدٌ يا ابنتي.
أَقْـفَرَ النـورُ واستذأَبتْ عتمتي
امنحيني إذن قُبْـلةً- طفلةً 
قبل أن تصعدي يا ابنتي للسماءْ
امنحيني ندى قدميكِ لألحق بالبحرِ كالرّيح هذا المساءْ
امنحيني جناحاً لتعلو بقايايَ  
نصفَ حياة هنا.. ولتكنْ غيرَ هذي الحياةِ
.. الحياةِ المماتْ
امنحيني نجوماً تشيرُ إلى وجهتي.. قمراً 
طائراً جارحاً ساكناً في صلاةْ:
إلهي الذي في الأعالي وفينا وفي كلِّ شيْ
إلهي العظيمُ.. العليمُ.. الرحيمُ .. إلهي القويْ
أما كانَ يُمكنُ أن تترفَّقَ بي وبها 
يا إلهيَ أعرفُ: الموتُ حَـقْ
ولكن، أما كانَ يمكن أن تمنحَ الناسَ 
في هذه الأرضِ موتاً أَرَقْ؟
مَلاكا يحطُّ برفقٍ على الروحِ 
يرفعُها بسلام إليكْ؟ 
إلهي العزيزُ.. الجبارُ.. القهَّارُ.. القُدُّوسُ.. الخبيرُ..العليُّ.. اللطيفُ.. الكبيرُ.. القديرُ
إلهُ الأعاصيرِ والنَّسماتِ الجوارحِ والكائناتِ الأليفةْ
هل كان يُمكن أن يَضْمُرَ الكوْنُ 
لو أنَّ جرحَ الصغيرةِ أصغر منها قليلاً.. وهذي القذيفةْ؟!
وهل كان يُمكن أن يشربَ الحزنُ هذي الكواكبَ
لو أنها صعدتِ للسماءِ
كأطفالِ أعدائـنا يا إلهيَ
مزهوَّةً بثيابٍ نظيفَةْ؟!
ولماذا على طفلةٍ أن تظلَّ إلى آخر العمرِ ساهرةً 
كي تُنظِّفَ صورتها في الظلامِ 
وتُخفي عن الناس، يا ربُّ، هذي الجراحَ المخيفةْ؟!
إلهي السّميعُ.. المجيبُ.. البصيرُ.. المُذِلُ.. المُعِزُّ.. 
الجليلُ.. الغفورْ
إلهي المجيدُ.. الودودُ.. الوهّاب.. الرَّزّاق.. الرَّشيدُ..
الشَّهيدُ.. الصَّبورْ
أما كانَ يمكنُ أنْ تترفّقَ..
تَرْزَقـها مثلَ كلِّ الطيورْ؟!
وتمنحَها فسحةً كي تسير بمفردها 
كان يلزمها يا إلهيَ من عُمْرِ هذا الزّمان.. شهورْ!
إلهي المعينُ.. المُقْتَدِرُ.. الحكيمُ.. الرَّؤوفُ.. 
الحليمُ الذي جاء بي من براءةِ لحمي
وعلَّمني أن أكونَ لها رُغْمَ جَهْليَ أُمّـاً
وعلَّمني أن أرى سحرَها قبل أن يمسحوا دَمَ روحيَ عنها
إلهي.. 
الظلامُ يعيشُ على هذه الأرضِ أكثرَ منها!
الوحوشُ تعيشُ 
الحمامُ.. العصافيرُ.. أكثرَ منها!
الغزالُ.. الحصانُ ..النّوارسُ في البحرِ.. أكثرَ منها!
الثعالبُ بين البيوتِ، الدَّجاجاتُ.. أكثرَ منها!
الجرادُ يعيش .. الجنادبُ.. حقلُ السنابلِ 
والشوكِ.. أكثرَ منها!
الأفاعي تعيشُ.. العقاربُ.. والدُّودُ.. أكثرَ منها!
وقاتِلُها سيعيش، وعاشَ على دمها دااااائما يـا إلهيَ.. 
أكثرَ منها!
إلهي البديعُ.. إلهي الرَّقيبُ,,.. إلهُ الصَّحاري.. 
البحارِ.. الصَّواري.. الصّدى والكلامْ 
ما الذي سوفَ أفعله بيديَّ؟
بصدري، بهذا الحليبِ الذي يتفلَّتُ مني 
ويوقظُني صائحاً.. هاتفاً باسمها في الظَّلامْ؟
إلهي السلامْ  
هَلِ الشَّمسُ كانت ستذوي وينشَفُ رحمُ الغمامْ 
ويمتدُّ عمرُ الضّواري على الأرضِ
لو عاشت البنتُ حتى الفِطَامْ؟!
يـا إلهي السَّــلامْ؟!


Deprecated: Directive 'allow_url_include' is deprecated in Unknown on line 0