يفتح خلق الله آذانهم رُضعا على صوت أمهاتهم، هكذا ساعة تحضن جسد رضيعها أو حين تضعه فى مهده تهزه بيديها، ليرسله صوتها الهنى إلى سلطان النوم!، تلك «الهدهدة» مبعث الطمأنينة والراحة لطفلها، دندنة صوتها مبتدأ علاقة حب وحِن، مشبعة بمشاعر الأمومة الدافقة، لن يُجيدها الأب فله مهام أخرى، ويُحكى أن كثيرا من الآباء يُمضون أشهرا حتى يقيمون علاقة مع جسد الرضع، ولا تراهم يقاربونهم حتى يقيم الطفل منهم أوده ناطقا بنصف كلمة بابا!.
مُعلنٌ غناء المرأة إلى أطفالها، وداخل محيط بيتها ومتعدد، ومنه «أغانى الرحى» حين كانت ربات البيوت يجلسن لطحن الحبوب، وكنت فى طفولتى كثيرا ماسمعت عمتى لوحدها أو ورفيقاتها يتشاركن غناء تدوير «الرحى» الثقيلة (تسمى المهاجاة فيها أخذ ورد)، إذ حجرين دائريين (علوية،وسفلية) تتوسطهما فجوة لرمى الحبوب، وعلى الطرف يد خشبية، الحجران يتوليان مهمة أحالة الحَبْ الصلب إلى دقيق، بواسطة الجهد الأنثوي، الذى يصحبه غناء ذو إيقاع يكاد يكون واحدا، بكلمات شعرية تتناول مشاغل حياتية عدة، عن هجر زوج، وحشة شقيق، أمنيات رخاء عيش وسعادة زوجية، وعن ظلم واضطهاد مجتمعي، ومنها حوصلة تجارب وخبرة، مثل: ماتيجى محبة بغصب/ولا بر من عند جافى/ولا فى البحر ينحفر بير/ ولافى العدو قلب صافى.
وفى التعديد للنساء أشعارهن، فأثناء مناسبة الفقد والعزاء أيضا يجرى إعلان مدى حزن تطول أيامه، معبر عنه بإيقاع يستصرخ مناقب من فقدن، ويصير حادا موجعا لو المتوفى شابا، بل فى بعض الأحيان يجرى ضرب طبل أو صحن معدنى (يسمى ليان) بالأيدي، وينزل الطرق لحظة سكوت قصيرة، تظهر كفاصل قوى يستحث مشاعر الحزن، وكأن راحة الميت فى قوة الضرب بموازاة القول كمعبر عن شدة الحزن، وهو أيضا فعل ممارس فى تجمع نسائى وفقط، غالبا مايصل صداه للحي، وبذلك يتحقق الإعلام بأن بالبيت حالة وفاة.
والفرح للنساء طقوسهن المعبر عنها غناء طيلة أيام العرس، وخاصة بيت العروس، ففى مدينة طرابلس، يوم إعلان وإشهار المناسبة تطلق نساء العائلة غناءهن فتقوم «المُستذنات» أى يستأذن المرور على البيوت للدعوة، ولهن أجر متفق عليه. وعند جلوس الجارات ورفيقات أم العروس لصنع الحلويات، يقطعن جهدهن بتبادل أبيات من الشعر الغنائى المعروف، وكونه جماعيا تقوم بعضهن بفاصل، هى زغردوات يُتقصد أن يسمعها الجيران لمزيد من إعلان الفرح.
ليس لى أن أخفى أن باعث هذا المقال عن مراجعة خصوصية أغنيات النساء، أو غناء المرأة الليبية فى مناسبات الفرح أو الحزن، هو صفحة صديقة على فيس بوك استرجعت بذاكرتها وهى فى بلد اغترابها، أبياتا من نصوص غنائية تملأ أفراح الغرب الليبى وتطلقها النساء، تداعت الكلمات على حائطها، حائطا وراء حائط، فبادرتها عشرات المُشاركات بالمزيد، وجدت نفسى بينهن أستعيد ما يزال يشنف سمعى من مناسبات حضرتها طفلة، تصفق لما تسمع، ثم صبية أردد معهن ماحفظته، ومايخصنا كنساء تجمعنا أيام العرس لأجل أن نفرح ونغني، والنصوص الغنائية المتوارثة تتعدد موضوعاتها، ولكنها فى المجمل شكوى الحب ومواجعه، ورسائل أمانى بتحققه، الصديقة الافتراضية جميلة الميهوب أضفت أجواء حميمة، بل وضاحكة، رغم ما تعج به قلوبنا من هدير أخبار الحرب والنزاع بالغرب مؤخرا، إذ صارت بعض تلك الأغانى مجرد تذكار وصدى عمر بيوتا، ولاحقا خيم نصبت فى شوارع معلنة مناسبة العرس (غنائهن فى الشارع)،اليوم صارت صالات الفرح أغلبها تعتمد منظومة إلكترونية تضخ الأغانى العربية منها تفوق الليبية، وفى حال من الانسجام ترديدا ورقصا، وعلى ذلك أيضا غادرنا حتى الرقص الليبى! الذى كانت الفتيات تتبارى فرادى وجماعات لعرض قدراتهن فيه، والعيون تلاحقهن والأيدى تصفق لهن تحميسا وتشجيعا على إطالة حركات جسدهن المليء بالحيوية حين يتسق ويجارى ضربات الطبلة (الدربوكة) مطلقة أجواء من الفرح والنشوى، هكذا كانت الأفراح بلسم وفضفضة وتفريجا للقلوب وتحرير للأجساد، قادتها أيضا فرق النساء الشعبية التى نسميها «الزمزامات»، من يجرى حجزهن بموعد يُدفع لأجله عربون مقدم، ويُقدم لهن حال جلوسهن فى يوم الفرح، مالذ وطاب من فاخر وأجود الطعام (وجبة غذائهن أو عشائهن، والمكسرات، وأطباق الحلويات وغيرها)، ليحصل رضاؤهن، فيصير غناؤهن علامة جودة معيار فرح العائلة تلك الليلة عند كل أهل الحي. أما لمن تغنى النساء كلماتها وتشذو بألحانها المتوارثة فهى للآخر طفلها، أو للرجل أبا أو أخا، أومأمولها كصنو سيقاسمها الحياة.
إضافة تعليق جديد