جُلنا يتابع الأخبار والأصداء التي تهز مشاعرنا قلقا ، إذ تضرب بمفعولها وارتداداتها في عمق خصوصيات تاريخنا وإرثنا الحضاري ، و التي تتردد مؤخرا مشيرة لمطالبات عاجلة بتحمل المسؤلية بتفعيل قوانين الحماية التي تحقق متابعة و ملاحقة المؤسسات المحلية و الدولية المعنية الى ما يتهدد الأثار بمختلف تموقعاتها وتفاصيلها في بلدان الانتفاضات والثورات العربية إذ المتغيرات والتحولات الكبرى عادة ما تُحدث فراغا وصدعا لا مفر منه في النظام السياسي والأمني ، والذي أغلبه في دولنا جذرهُ خليط من الهشاشة واللا انضباط ، خلخلة أو زلزلة عارضة في كيانه كفيلة بفضح معايبه (ليبيا نموذجا) وقد كان متغيرها مُسلحا فجرت السرقاتُ لعملات تاريخية نادرة مع أول حكومة انتقالية عام 2011 ، و لا ننسى أيضا أن معظم دولنا تعرضت في آوان ما اعتبر استقرار، الى مسلسل سرقات أثرية تواطىء فيها أفراد أو مؤسسات مع شبكات تهريب لهم مصالحهم ومطامعهم ، فما بالك حين يسقط جسد نظام واهن، وتنفتح الأبواب لكل طامع غانم، منعدم الضمير ليتاجر بوطنه وممتلكاته.
ولعل ما يقلقنا اليوم يُذكرنا بحدث ليس ببعيد بمشهده المفزع الصادم ، ما جرى أول أيام الغزو الأمريكي للعراق من استهداف متعمد طال متاحفه الشهيرة، سرقة لثراوته الحضارية التي تمثل حقبا تاريخية متعاقبة لها قيمتها و دلالاتها لشعب أسس في حضارته النهرية للغة وتعليم وصناعة وعُملة وقانون وفن واساطير تمثلت منتجا أنسانيا في لوحات وتماثيل تنطق بلحظات مفصلية لرموز وأبطال حكموا ولشخصيات عبرت وأحدثت أثرا داخل بقعتها أو في اندماجها أو صراعها مع الأخر، ورغم النداءات الصارخة التي فضحت ما جرى ساعتها إلا أن الأعين عمت والأذان صمت في دلالة مفضوحة لما يُدبر من مكائد دولية تجاه العراق من الغازي الامريكي الى الاطماع الفارسية و التركية ، و الصهيونية بلا شك ، تقصدت أعدام التاريخ الجمعي بنهبه وإخفائه،بل طال الاذى والانتقام علماء آثار وخبراء، متقصدين أن يُفقدوا شعبنا العراقي مرجعيته التي هي أثر خالد لا سبيل لمحوه مهما نحتوا بمعاولهم الحاقدة .
وما طُبق على العراق جرى مثيلهُ بسوريا ولاحقا اليمن ، مع تمدد العصابات الأرهابية داعش ومثيلاتها مؤخرا رافق جرائمها البشعة في قتل العباد والاستيلاء على المدن ، جريمتها أينما حلت في هدم الاثار من جهة كما و نهب المئات من القطع الأثرية الثمينة والنادرة وبيعها و التي مثلت محركا ومصدر تمويل لأقتصاد دولتهم المزعومة وعلى رأس ذلك شراء الأسلحة التي تنفذ بها جرائمها و تضمن حدودها بل وتوسعها ، ورغم الانتصارات التي تحققت على الارض ضد تلك العصابات التي قارب زوالها ، وجهود المعالجات للمدن التي طالها الخراب بشرا وبنية تحتية ، إلا أن معضلة الأثار ينبغي أن يُلتفت لها أيضا بحثا وتنقيبا وتحقيقا للكشف عن المصير الذي ألت إليه تلك المسروقات والى أي أراض وصلت ، وفضح الشبكات المتاجرة بها ، وهي مهمة ينبغي أن تضطلع بها مؤسسات حكومية على رأس السلطة من وزارات السياحة والأثار والثقافة الى المؤسسات الأمنية ، كما وحملات توعوية معاضدة ، و رقابية من المنظمات المدنية ، و الحقوقية و مراكز المعمار والفنون والحرف على رأسها ، ونحتاج الى جهود تأصيلية تقترب من النشء في مؤسساتنا التعليمية بمفردات منهجية تربوية تنفتح على علاقتهم بأرثهم الوطني المادي واللامادي الذي ليس فقط للفرجة وقضاء رحلة سياحية ربيعية به ، الاثار أثرُنا المعبر عن تفاعلنا وفق معطيات الحياة من حولنا ، ومواقفنا و فاعليتنا في الزمان والمكان ، الأثار تاريخنا الشاهد وبقاياه الشُهود لنا ، ومن الأهمية غرس المعرفة بها وتجذير الأحترام والتقدير المعنوي لها ، وفي ذلك حفاظ على مكون مهم لهويتنا ، وخلق علاقة انتماء ما يُحملهم المسؤلية تجاهها فلا يسمحون بالتفريط بها لأيّ كان.
إضافة تعليق جديد