الحمد لله في البدء والانتهاء ذي الفضل والطَّوْل والآلاء... والصلاة والسلام على من اصطفى من السعداء...
كلمتا (المأوى) و(المثوى) تشتركان في الدلالة على الإقامة والمَكْث، وباستخبار المعجمات عن الدلالة القاطعة لكل منهما، يحدثنا أربابها بأن (المثوى) و(المأوى) اسما مكان على (مَفعَل) بفتح العين لكون فعليهما من الناقص؛ أي: (ثَوَى)، و(أوى).
يقول صاحب المصباح: «أَوَى إلَى مَنْزِلِهِ يَأْوِي مِنْ بَابِ ضَرَبَ أُوِيًّا أَقَامَ وَرُبَّمَا عُدِّيَ بِنَفْسِهِ فَقِيلَ أَوَى مَنْزِلَهُ وَالْمَأْوَى بِفَتْحِ الْوَاوِ لِكُلِّ حَيَوَانٍ سَكَنَهُ وَسُمِعَ مَأْوَى الْإِبِلِ بِالْكَسْرِ شَاذًّا وَلَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْمُعْتَلِّ وَبِالْفَتْحِ عَلَى الْقِيَاسِ وَمَأْوَى الْغَنَمِ مُرَاحُهَا الَّذِي تَأْوِي إلَيْهِ لَيْلًا»؛ ويستفاد من هذا النص أن المأوى فيه مع الدلالة على الإقامة معنى اللجوء بعد مشقة، كما فيها معنى المستراح والمنتهى بعد رحلة وتطواف، وأن الآوي راغب فيه وطالب، على أنني أخالف الفيومي في شذوذ (المأوِي) بكسر العين؛ لأن المراد به مأوى معهود متعارف عليه للإيواء؛ كما لو كان هناك مكان خصَّصه الناس للإيواء والاحتماء، أما (المأوَى) بفتح العين على القياس فهو أي مكان يأوي الناس إليه، ويصلح لذلك دون اشتهار أو تخصيص، وقد قالوا في (مسجَد) بفتح العين على القياس للدلالة على مكان السجود: (مسجِد) بكسرها للدلالة على مكان سجود معين معروف معهود؛ وهو المكان المخصص للعبادة على ما ذكره شيخ النحاة أبو بشر رحمه الله... أقول: إذن المأوى مكان إقامة ولجوء واعتصام واستراحة...
أما (المثوى)، فهو من ثَوَى بالمكان وثواه يثوي ثواء، من باب ضرب؛ أي: أطال المُقام؛ حتى إنهم يقولون للمقتول: (قد ثوى)، وقالوا للغريب المقيم ببلدة: (هو ثاويها)، ويتعدى الفعل (ثوى) بـ(في) وبنفسه؛ وهي ظاهر كثيرة الدوران في العربية؛ حتى إنني أذهب إلى كون التعدية باب في العربية لا يحتاج إلى ضوابط؛ إذ مرده الأمور النفسانية والعلائق الوجدانية، ويفرضه السياق، أو يقتضيه المقام...
وَالْمَثْوَى بفتح الميم وَالْعَيْنِ الْمَنْزِلُ والجمع الْمَثَاوِي بكسر الواو وفي الأثر: (وَأَصْلِحُوا مَثَاوِيَكُمْ). وَأَثْوَى بالألف لغة وأَثْوَيْتُهُ فيكون الرباعي لازما ومتعديًا... وقال ربنا سبحانه: {وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} [القصص: 45]؛ ومن ثم فالمثوى مكان إقامة طويلة على ما هو الأصل في الإقامة، لا بقصد اللجوء أو الاعتصام أو الاستراحة، بل هو الأصل في الإقامة الاعتيادية غير المقيدة بقيد من القيود التي تقيد بها المأوى بحسب ما سبق ذكره.
حتى إذا ما أغلقنا دفات المعجمات؛ مودعين أربابها من أيمة اللغة، وحطت رحالنا بالاستعمال اللغوي الحي النابض الذي يهرب من الرفوف إلى الفن والبيان وعالم الإنسان وما يسطره البنان ويلفظه اللسان؛ وهي كلها استعمالات يحكمها المقام ومقتضيات الكلام، علاوة على نكات وإشارات لا تستفاد من الاستعمال الأصلي، على أن هذا الاستعمال المعجمي اللغوي الأصلي هو مقياس وضابط الحقيقة والمجاز، يقول الله -سبحانه وتعالى- في كتابه العزيز: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 38]؛ فعبر بالمأوى عن الاستقرار في الجنة والنار كليهما، ولا شك أن استعمال المأوى مع الجنة استعمال أصلي؛ إذ كل نفس لها طالبة، وفيها راغبة، ولا شك أنها جاءت بعد تَطْوَاف وتَرْحال في بلاد الدنيا، تلك البلاد بمعناها الحقيقي والمجازي، وإلا فرحلات النفس تطوف ببلاد روحانية وعوالم وجدانية كثيرة متنوعة ومتلونة... أما مجيء المأوى مع النار على الرغم من عزوف كل نفس عنها وانصرافها والنفور منها ومن حَرِّها، فإن ذلك مرده الاستعارة التمثيلية؛ إذ شبه انغماس الناس في الشهوات والذنوب وإعراضهم عن الصالحات مع علمهم بمغبة كل منهما بمن أكبَّ وأقبل على الجنة لا يبغي عنها حِوَلًا، وسعى لها سعيها، بجامع المقدمة (السعي والرغبة) في عالم الشهادة والترتب والنتيجة في عالم الغيب في كل، ثم حذف المشبه به وأتى بشيء من لوازمه؛ وهو المأوى الذي هو تخييل الاستعارة، وفيه كناية عن سعيهم للنار بإرادتهم، وإشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (إلا من أبى)؛ والتقدير: (وأما من طغى وآثر الحياة الدنيا، فإن الجحيم مثواه، كمن اتقى وآثر الآخرة، فإن الجنة مأواه؛ ولا يخفى أن في كلمة (المأوى) مع النار تهكمًا وسخريةً وتعجبًا على ظاهر التركيب، لا تعجبَ من قِبَل المولى -عز وجل- الذي يستحيل عليه العوارض النفسانية والأمور الوجدانية، بل هي تراكيب عربية يستعملها الحكيم للإفهام والتبليغ...
إن كلمة المأوى مع النار تتفجر بالدلالات التي تضيق عنها المقولات والسجلات، إنها كلمة استثنائية في موضع متفجر بالمفارقة، ومن زاوية أخرى نستشعر فيها الدلالة على أن تلك النفوس البئيسة الخاسرة هي نفوس نارية لا يليق بها إلا الجحيم الذي يناسب طبيعتها؛ فكأن تلك النفوس تسعى إليها (الجحيم) تريدها متلهفة عاشقة، ومن الطبيعي أن تستغرب الأسماع تلك المفارقة؛ فكان تأكيدها بضمير الفصل (هي)؛ للدلالة على أن الجحيم هي بالفعل مأوى لتلك الأرواح الشيطانية...
يقول علامة الزمان في كل وقت وآن الشيخ أبو حيَّان: «وعبر بالمأوى إشعارًا بانتقالهم عن الأماكن التي تقلبوا فيها؛ وكأن البلاد التي تقلبوا فيها إنما كانت لهم أماكن انتقال من مكان إلى مكان، لا قرار لهم ولا خلود، ثم المأوى الذي يأوون إليه ويستقرون فيه هو جهنم»؛ ومن ثم فقد لاحت وبانت النكتة في العدول عن المثوى إلى المأوى... وقد ذكر ابن عباس أن الجنة سميت بالمأوى؛ لأن أرواح الشهداء تأوي إليها...
أما المثوى فهو مكان الإقامة والاستقرار بحسب العادة والعرف والأصل، دون قيد انتقال سابق أو نزوح أو ترحال أو رغبة أو مستراح؛ يقول -عز من قائل- في محكم التنزيل: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 151]؛ أي: مستقرهم؛ فجمع بين المثوى والمأوى للنار، باعتبارين كما سبق بيانه؛ فالمثوى لاعتبار الإقامة؛ وكأن النار لهم دار قرار، وأنها الأصل الذي لا يتغير أو يُعدَل عنه، وهي مأوى باعتبار طلبهم إياها بالذنوب والمعاصي...
كما قال -تبارك وتعالى- في القرآن الكريم: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} [يوسف: 21]؛ أي: مُقامه؛ لأنه ثاوٍ ما شاء له الثواء؛ إذ اصطفياه على نية الخدمة أو التبني...
وقد قرأ الأعمش: {لَنُثْوِيَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا} [العنكبوت: 58]؛ أي: لنقيمهم في غرف من الجنةي:أي: ... ويقال للضيف: ثَوِيّ، ولامرأة الرجل: أم مثواه... وفي سنن أبي داود أن شيخًا من طُفَاوَةَ قال: «تَثَوَّيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ بِالْمَدِينَةِ فَلَمْ أَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَشَدَّ تَشْمِيرًا، وَلَا أَقْوَمَ عَلَى ضَيْفٍ مِنْهُ» أراد: تضيفته؛ أي: طلبتُ أن يستضيفني؛ فأقيم عنده.
وفي النهاية أقول: إن المثوى والمأوى تدلان على الإقامة الطويلة، باعتبار الأصل والعادة في المثوى، وباعتبار المآل في المأوى، بيد أن المأوى تتميز بالدلالة على سبق الترحال والتطواف، علاوة على الرغبة والطلب، في حين يخلو المثوى من ذلك، وتتعاور الكلمتان في الاستعمال السياقي البعيد عن أوراق المعجمات؛ وذلك لنكات كما بينها المقال، وآخر دعوانا أن الحمد لله الكبير المتعال، والصلاة والسلام على النبي المفضال، كامل الشمائل والخصال، عليه وعلى آله وأصحابه ذوي الطاعة والامتثال...
_____________
إضافة تعليق جديد