هناك نوعٌ من التّحدي التحليلي في نقد المجموعة القصصية «قصص بابل المعلقة» للكاتبة (تغريد فياض)[1]، ويتمثل التحدي في تنوع القصص القصيرة الموجودة داخل المجموعة والتي يصل عددها إلى عشرين قصة قصيرة، تتنوع في الحجم والقصر ما بين صفحتين وثماني صفحاتٍ، وهذه السعة في الفضاء النصي يقابلها سعة وتنوع في الدلالة التي تتناولها القصص، وبمجمل القصص هي نظرة مختلفة تجاه الحياة وتقييد لتجربة جمالية في مواجهة الواقع المؤلم، هذا الواقع الذي تصدر له الكاتبة بمقولة يجب أن نضعها في دائرة الاعتبار بحيث تصبح هي المفتاح الأساسي لفك الشفرة النصية والدلالية[1]، عندما تقول: «لكل منا حدائقه المعلقة في سماء روحه»صـ3، هذا التعبير الأقرب للرومانطيقية الفلسفية بحيث إذا ما أخضعناه للتحليل وجدناه يحتمل العديد من المعاني التي لا يمكن الجزم بأنها المعنى الدلالي المقصود، فالتناص هنا مع أسطورة الحدائق المعلقة، وبغض النظر عن الحقيقة التاريخية فإن ما يبقى هنا معناها من القيمة، وهي معانٍ يمكن النظر إليها على أنها معانٍ متناقضة، فالأسطورية الممنوحة للحدائق المعلقة هي أسطوريةُ جمالٍ واستحالةٍ في الوقت نفسه، فوجود حدائق معلقة في سماء الروح قد تكون إشارة إلى معنى الجمال المتناهي، أو معنى استحالة الوصول، فأيهما تقصده الكاتبة؟ هل تقصد معنى الجمال، أم معنى استحالة التحقق باعتبار أن الحدائق المعلقة هي إحدى عجائب العالم القديمة ، أم ماذا؟ حيرةٌ دلاليةٌ تضعنا فيها مع الإهداء، بيد أن هذا ليس وحده الأمر المحير، فكلما مضينا وجدنا عتبات نصية أخرى[2] تسحبنا لعوالم الأسطورة في داخل ثنايا النص، من ذلك قولها أيضا بعد العتبة السابقة:
«قالت لي إحدى الجنيات:
كي تمضي نحو القادم من أحلامك؛ لا بد أن تتخفف من كل الأرواح العالقة في فضائك.» صـ5
ما المعنى الذي يمكن أن نفهمه؟ خاصة إذا ما ربطنا بالحدائق المعلقة، بالجنيات وعالمها، أعتقد أن المعنى هنا ملتبسٌ قليلاً، فليست القضية هنا هي الاستحالة بقدر ما هي قضية الانتقال من الاستحالة إلى التحقق، فالإشارة النهائية إلى الرغبة في تحقيق الحلام، وتحقيق الأحلام هنا يعني ذلك النوع الذي نحلُم به أثناء اليقظة وليست تلك الأنواع التي نراها في أثناء النوم، والتي هي نقيض اليقظة في محاولة التنفيث عن الواقع السيء الذي نعيشه، إذن فالإطار العام الذي يمكن أن نفهم فيه المجموعة القصصية هو إطارُ عالمٍ مُتناقِضٍ ما بين الحلم والرغبة في تحقيق الحلم والانتقال من خانة الواقع إلى الواقع المحدث والمطور.
عشرون قصة جاءت في ثنايا النص تنوعت بين الطويلة والقصيرة، لا يختلف التكنيك الفني في كيفية القص بداخل النص، لا يمكننا إنكارُ التنوع في العقدة والشخصيات؛ لكن الطابع الثابت هو الحكي من الخارج، وإيقاف القارئ على حد الحيرة الدلالية بين الأسطوري والحقيقي الخيالي والثابت، تبدأ مقدمة القصة غالباً بوصفٍ من الخارج تقول في قصة «احتفال»:
«يستعدون للاحتفال الكبير في هذا اليوم بالذات، كل عدة أعوام بأجمل ما لديهم، فهو غير كل أيام هذه المدينة، وفي نهايته هناك جائزة كبرى، تلك الجائزة التي لا يرغب أي منهم في الحصول عليها، ويتمنى ألا تكون من نصيبه»ص13
تستفيض الكاتبة فيما بعد في بيان الأحداث وصِفات المدينة، وهكذا منذ البداية وهي تُؤسس للأسطورة القادمة، ربما من خصائص القصة القصيرة أنها تسمح بسهولة بظهور الوظائف السردية التي كان (فلاديمير بروب) قد أشار إليها[4]، بيد أننا نلاحظ هنا إسناد وظائف سردية للوصف ذاته باعتباره فاعلاً في تقديم الحكاية والكشف عن دواخل الشخصيات، فإحدى وسائل اختصار الحكي في القصة هنا، تقديم المعنى العام الذي يعبّر عما في دواخل جميع شخصيات القصة، مثل قولها:
«في مثل هذا اليوم تريد كل امرأة أن تكون في أفضل تجليات سحرها.» ص 14
يمكن للقصة بأكملها أن تكون بدون شخصيات محددة، وفي هذه الحالة فإننا إزاء قصة لحالة شعورية عامة، بيد أن هذه الحالة الشعورية هي ذاتها مختلقة، ليست حقيقية، فكيف يمكن قراءة الأمر دلالياً؟
مازلنا نقع في ذات الخطأ الذي ينظر للنسوية من المنظور نفسه، فهي غالباً دفاع عن قضايا المرأة وعن تحررها في وجه الرجل الظالم والقامع للحريات، لكنّ هناكَ جانباً آخرَ من الكتابة النسوية يقوم بإعادة تقييم الوضع الراهن كله، ويقدم وجهة نظر جديدة تجاه الحياة، تتحدث الكاتبة بمنظور إنساني من رؤية نسوية، فتقول في ذات القصة:
«تقدم مجموعات من الطواويس باقات من ريشها الفاخر لكل العابرين. يجمع بعض الأطفال أكواماً من الأوراق الملقاة هنا وهناك في الطرقات ويلونونها ثم يحولونها إلى قصاصات مزركشة يعلقونها في كل زاوية في مدينتهم المحبوبة، وفوق المباني والأشجار، ثم يمدون أسلاك الأضواء الكهربائية الراقصة بين كل الشوارع والمباني. يتفاعل البركان معهم ليشارك في الاحتفال (تكفيراً عن ذنبه)..» صـ15
ما يدهشني في القصة الأنموذج التي اخترتها لاستعراض التكنيك الفني، أنها اختزال لكل شيء، ونقيضه في الوقت نفسه، فلو تأملنا هذه القصة وفحواها الرمزي، لوجدنا أنها اختصار للحياة بأكملها، ففكرة الاحتفال والتزيين ليوم له طقوسه، وتصنيف هذه الطقوس بحيث تبدو في بداية القصة وكأنها تعادل ما يحدث في حفلات الزفاف، حتى نشعر أننا بالفعل أمام طقوس حفل زفاف، حتى المجوهرات التي يقذف بها البركان الخامد، وهكذا كأننا في اختزال رمزي لكل ما يحدث في الحياة من أفراحٍ مُبهجة، هكذا في نصف الأقصوصة الأول – مع ملاحظة عدم وجود بطل للقصة، وعدم وجود أحداث أيضاً إن شئنا الدقة، إنها اختزال رمزي عالي الكثافة، يكتسب جاذبيته وتشويقه طوال الوقت من البحث عما سيحدث، وأين الأشخاص، ففعلياً تبدو الحكاية كأنها خالية من البشر، السؤال المُلِحّ: ما ذلك المصير الذي تحذر الكاتبة منه، وماذا سوف يحدث؟ هل هو مصير زواج رجل ما من امرأة؟ ولماذا يرغب في الفرار منه، هل هي قبيحة أم لها متطلباتٌ أعلى من إمكانياته، وهكذا في ظل حالة من حالات الدهشة والتساؤل، خاصةً وأن الكاتبة تؤسس لقصتها بنوع من الإيقاع البطيء للحكي في البداية، ورويداً رويداً تَسحَبُنا لعالمٍ رَمزيٍ كامِلٍ يختزل كل تجارب الحياة فيما يمكن أن نعده مسعداً أو مبهجاً أو باعثاً للفرحة.
هل يمكن القول إن القصة القصيرة يمكن اعتبارها في مجملها تأسيساً لعلامةٍ كبيرةٍ لها معانٍ مُتشعّبَة، أي أن ننتقل سيميائياً من الدال والمدلول إلى المفهوم الموجود في العقل[5]، ومن ثم تصبح القصة هنا عملية تأويلية بحتة، نجحت الكاتبة أن تقدم المعنى المراد توصيله في قالب من التشويق، ومن هنا نصبح أمام نظرتين مختلفتين للقصة: الأولى أثناء القراءة، والأخرى عند الانتهاء منها، فما إن تتضح نهاية القصة، أن الحفل الذي يجتمع له أهل المدينة، هو حفل هلاكهم جميعا إلا واحداً، حتى تفاجئنا صدمةٌ ما، ما بين الفرح والبهجة التي كانت الكاتبة قد قدمتهما في السابق، وبين ما يجتمعون له، وعند التأمل نجد أن ذلك اختزالٌ للحياة الحقيقية فعلا، أليس كل ما نفرح به ويسعدنا هو في النهاية إلى زوال؟ وأن المصير الطبيعي هو انتهاء كل هذا ويأتي الموت والرحيل، سواء لمن حولنا أو لنا نحن أنفسنا، أين إذن زينةُ هذه الحياة وما بها من بهارج، وهذه الطواويس التي تلقي من ريشها للأطفال – (ولاحظ أيضاً تصوير من يفرحون بزينة الدنيا بالأطفال) – وهكذا في توالٍ رمزيٍ مُستمرٍ يتمُ تَقديمُ كُلِ اختزالات الحكمة وتعريتها أمام القارئ.
ثم من بين الحكي العام على ما يحدث من تبدل أحوال الدنيا، وانخداع الانسان – رغم ظنه أنه حكيم وعاقل – والجهد الذي يبذله في التطيب والتزين الوارد في مقدمة القصة، تبدأ الكاتبة أيضاً في سَحبِ آلامِ الفراقِ كلها وتخصها بفردٍ واحد فقط، ففي هذه المدينة، فرد واحد فقط هو من يجب أن يبقى، وعليه مهمة دفن كل أحبابه، إن أكثر ما يؤلم في الفراق هو تذكر الفرد من فارقوه، ولحظة دفنهم، اتخذت الكاتبة من ذلك تجسيداً رمزياً لمقدار الوجع، فأصعبُ لحظة عند ذلك الشخص الذي قدره أن يبقى وحيداً بعد رحيل جميع أهل القرية أن يقوم بأمرين متناقضين: الأول: دفن جميع من ماتوا، والآخر: إعادة إنشاء الحياة، وهما ذات الأمرين اللذين نواجههما في الحياة بحالةِ الوجع والفقد.
كل قصة من القصص الموجودة في المجموعة لها فكرتها التي تتم عبر مرحلتين، الأولى التخصيص الشخصي لطابع القصة، الأخرى إمكانية سحب هذه الرمزية واعتبارها تدبراً فلسفياً وتفكراً في الحياةِ وفيما يحدث من حولنا من أحداث، وكيف أن هذا الإنسان العاقل الواعي هو في الحقيقة غافلٌ ولاهٍ عن كثيرٍ من الأمور التي يجب أن يعيد النظر في التفكير فيها وفي تدبُّرِهَا، وفي طريقةِ تَعامُلِنا مع كلٍ من بعضنا البعض، ومتغيرات الحياة من حولنا، إن الكاتبة نفسها تعطي في داخل قصصها بعض آليات استقراء الدلالة، فمثلاً في قصتها «عالم كريم» تشير هي نفسها إلى إمكانية استقراء نصوصها باعتبارها عوالم موازية، وليست مجرد سردٍ عن أشخاص، وهنا يتبدّى لي سؤال: إذا كانت الكاتبة تريد إقامة عوالم موازية داخل قصتها بنوع من التناص السردي الرمزي مع متغيرات الحياة، فلماذا لم تختر لذلك قالب الرواية بدلاً من قالب القصة؟ فالرواية تعطي زخماً أكثر لإمكانية التحليل والتأويل، وما تتبعه من خط أرى أنه نادرٌ في القصة القصيرة، صحيحٌ أن القِصّة القصيرة تقومُ على التكثيف الدلالي واختزال المعطيات والأحداث والزمان والمكان أيضاً، لكن غالباً لا يتم طرح قضايا كبرى في القصة القصيرة، اعتدنا أن تُطرَح هذه القضايا في السرديات الضخمة، لكن يبدو أن الكاتبة أرادت تحقيق نوع من توصيل الرسالة غير الممل للقارئ، فجربت مغامرة سردية جديدة، أن تقوم باختزال وترميز قضايا كبرى لدى الإنسان في حياته المعاصرة، والغالب على الأدب الحديث من قضايا الاغتراب والشعور بالقلق الوجودي ومشكلة التواصل بين الرجل والمرأة والصراع الجدلي بين الخير والشر والأبدي بين الثراء والفقر والاحتياج وعدم الاحتياج، هكذا تقدم ثنائياتها الضدية التي هي في النهاية استمرار لعلاقات الحياة المتناقضة والتي تتحكم النسبة في تناقضاتها في توازن الحياة بين السعادة والشقاء، الحرية والعبودية، الفرح والحزن وهكذا، في أسلوبٍ تشويقي يدفع القارئ إلى إكمال تتابع القصص وكأنها متوالية سردية تحليلية تتمثل الواقع وتعكسه باشتباكاته مع الحياة في مساراتها المتعددة.
إضافة تعليق جديد