يعيش العرب اليوم عصرًا أراد البعض فيه، محليًّا وخارجيًّا، إقناع أبناء وبنات البلاد العربية أنّ مستقبلهم هو في ضمان "حقوقهم" الطائفيّة والمذهبيّة، وأنّه في الولاء لهذه الدولة أو تلك على أساس الانتماء المذهبي، وفي الاعتماد على هذا المرجع الطائفي/المذهبي أو ذاك، بينما خاتمة هذه المسيرة الانقسامية هي تفتيت الأوطان والشعوب، وجعلها ساحة حروب لقوًى دولية وإقليمية تتصارع الآن وتتنافس على كيفيّة التحكّم بهذه المنطقة العربية وبثرواتها.
هناك الآن حاجةٌ قصوى لوقفةٍ مع النفس العربيّة والإسلامية قبل فوات الأوان، وهناك حاجةٌ أيضًا إلى فكرٍ عربيٍّ جامع يتجاوز الإقليميّة والطائفيّة والمذهبيّة والقبليّة، ويقوم على المواطنة ونبذ العنف واعتماد مرجعيّة الدساتير والقوانين. وهناك حاجةٌ ملحّة للفرز بين المثقّفين العرب لمعرفة من يعمل من أجل الحفاظ على النّسيج الوطني الواحد، ومن يعمل من أجل كانتونات فيدراليّة تحقّق مصالح فئوية مؤقّتة. وهناك ضرورةٌ عربيّة وإسلاميّة للتمييز بين من "يُجاهد" فعلًا، في المكان الصحيح، وبالأسلوب السليم، وبين من يخدم سياسيًّا مشاريع الحروب الأهليّة العربيّة.
قبل قرنٍ من الزمن، عاشت البلاد العربية حالةً مماثلة من التحدّيات ومن آثار صراعاتٍ دولية وإقليمية، لكن قياداتها لم تكن بمستوى هذه التحدّيات، فدفعت شعوب المنطقة كلّها الثمن الباهظ. عسى ألا تتكرّر الآن مأساة الأمّة العربية بالسقوط في هاوية تقسيم جغرافي جديد، يتمّ فيها رسم الحدود بالدّم الأحمر للشعوب، لا بالحبر الأسود فقط للقوى الإقليمية والدولية المهيمنة!.
إنّ "داعش" وجماعات التطرّف الديني انتعشت واستفادت حتّى من قِبَل بعض من يتحدّثون ضدّها شكلًا وهم يدعمون ضمنًا – ولو عن غير قصد - مبرّرات وجودها حينما يتّجهون بحديثهم إلى "عدوّهم" الآخر، وهو قد يكون هنا من طائفة أخرى أو مذهب آخر. فالحديث عن "الخطر الطائفي أو المذهبي أو القبلي" و"العدوّ الآخر" في داخل الوطن يساهم في إعطاء الأعذار لوجود هذه الجماعات العُنفية ولممارساتها باسم الإسلام، الذي هو كدين براءٌ من فكر هذه الجماعات وأساليبها.
في أواسط الخمسينات تبادل بن غوريون (رئيس وزراء إسرائيل) وموسى شاريت (وزير الخارجية) عدّة رسائل تحدّثت عن الأسلوب المناسب اعتماده لإنشاء دويلة على الحدود الشمالية مع لبنان تكون تابعة لإسرائيل ومدخلاً لها لاحتلال لبنان والشرق العربي وتقسيمه. وكان الحل في خلاصة هذه الرسائل والاجتماعات التي جرت آنذاك: البحث عن ضابط مسيحي في الجيش اللبناني يعلن علاقته بإسرائيل ثمّ يدخل الجيش الإسرائيلي ويحتل المناطق الضرورية وتقوم دولة مسيحية متحالفة مع إسرائيل.
وهذا المشروع الإسرائيلي رأى النور عام 1978 حينما أعلن الرائد في الجيش اللبناني سعد حداد إنشاء "دولة لبنان الحر" في الشريط الحدودي بين لبنان وإسرائيل.
وفي شباط/فبراير 1982، نشرت مجلة "اتجاهات -كيفونيم " التي تصدرها المنظمة الصهيونية العالمية في القدس، دراسة للكاتب الصهيوني أوديد بينون (مدير معهد الدراسات الاستراتيجية) تحت عنوان "استراتيجية لإسرائيل في الثمانينات" وجاء فيها: "إنّ العالم العربي ليس إلا قصراً من الأوراق بنته القوى الخارجية في العشرينات، فهذه المنطقة قُسّمت عشوائياً إلى 19 دولة تتكوّن كلّها من مجموعاتٍ عرقية مختلفة ومن أقلّياتٍ يسودها العداء لبعضها (...) وأنّ هذا هو الوقت المناسب لدولة إسرائيل لتستفيد من الضعف والتمزق العربي لتحقيق أهدافها باحتلال أجزاء واسعة من الأراضي المجاورة لها وتقسيم البعض الآخر إلى دويلات على أساس عرقي وطائفي".
ثمّ تستعرض دراسة أوديد بينون صورة الواقع العربي الراهن، والاحتمالات الممكن أن تقوم بها إسرائيل داخل كل بلد عربي من أجل تمزيقه وتحويله إلى شراذم طائفية وعرقية.
وهذا المشروع الاستراتيجي لإسرائيل في حقبة الثمانينات من القرن الماضي والمتصل مع خطتها منذ حقبة الخمسينات، جرى البدء بتنفيذه فعلاً من خلال لبنان والاجتياح الإسرائيلي له صيف عام 1982 ثمّ بإشعال الصراعات الطائفية والمذهبية خلال فترة احتلاله آنذاك، وفي أكثر من منطقة لبنانية.
وفي 11 آب/أغسطس 1982، أي خلال فترة الاجتياح الإسرائيلي للبنان، قال رئيس حزب العمل الإسرائيلي شيمون بيريز ما نصّه الحرفي: "إنّنا لا نريد وتحت أية ظروف أن نتحوّل إلى شرطي في لبنان، ولكن الحل الأقرب للتحقيق بالنسبة لمستقبل لبنان هو تقسيمه وإعادته مصغّراً إلى الحدود التي كان عليها قبل الحرب العالمية الأولى أي إلى نظام متصرفية جبل لبنان".
وفي عام 1982 أيضاً أعلن أرييل شارون أنّ نظرية "الأمن الإسرائيلي" تصل إلى حدود إيران وباكستان!
***
هذا العرض المختصر للمخطط الصهيوني في المنطقة العربية يعني أنّه مهما طال الزمن ومهما تغيّرت الحكومات الإسرائيلية من حيث طبيعتها وأشخاصها، فإنّ تنفيذ المخطط يبقى مستمراً حتى يحقّق أهدافه الكاملة. فلم يرتبط المشروع الإسرائيلي لتقسيم المنطقة العربية بحزبٍ معين في إسرائيل ولا بشخصٍ محدد، بل هناك مؤسسات وأجهزة وأدوات تتابع تنفيذ المشروع على مدار العقود السبعة الماضية.
إنّ المعيار السليم للتعامل مع ما حدث ويحدث من تأجيج طائفي ومذهبي في المنطقة العربية، هو في التساؤل عن المستفيد الحقيقي من كلّ ذلك التأجيج وعن الخاتمة المترتّبة عليه. ولا يجب أن تكون صعوبة الظّرف وقلّة الإمكانات وسوء المناخ السياسي والإعلامي المسيطر، عناصر تدفع من يرفضون واقع العرب اليوم، لليأس والإحباط، بل إنّ هذا الواقع يفرض المزيد من المسؤولية والجهد والعمل لتغييره نحو الأفضل. فالبديل عن ذلك هو ترك الساحة تمامًا لصالح من يعبثون في وحدة بلدان هذه الأمّة ويشعلون نار الفتنة في رحابها.
إنّ ما يحدث اليوم على الأرض العربية هو تتويجٌ لحروب المائة سنة الماضية. فكيف يمكن وقف هذا الانحدار نحو مزيدٍ من التقسيم للأوطان والشعوب، ومن أجل تجنّب الموت في الأفخاخ المرسومة للمنطقة العربية؟
إنّ الإجابة عن ذلك لا تتوقّف على فردٍ أو جماعة أو طائفة وحدها، وإنّما المسؤولية تشمل العرب جميعًا من المحيط إلى الخليج، وفي كلّ بقعةٍ بالعالم يعيش عليها عرب.
فالمسؤولية تبدأ عند كلّ فرد عربي، وهي مسؤولية كلّ عائلة في أن تفرِّق خلال تربية أولادها بين الإيمان الديني وبين التعصّب الطائفي والمذهبي الذي يرفضه الدين نفسه.
وهي مسؤولية كلّ طائفة أو مذهب، بأن يدرك أتباع هذه الطائفة أين تقف حدود الانتماء إلى طائفة، فلا نردّ على الحرمان من امتيازاتٍ سياسية واجتماعية، أو من أجل التمسّك بها، بتحرّكٍ يحرمنا من الوطن كلّه بل ربّما من الوجود على أرضه.
والمسؤولية تشمل أيضًا الأنظمة كلّها والمنظّمات العربية كلّها التي استباحت لنفسها استخدام سلاح "المذهبية" في صراعها مع بعضها البعض، أو من أجل تحقيق مكاسب سياسية آنيّة لها.
وعلى الجميع أيضًا، تقع مسؤولية فهم ما يحصل بأسبابه وأبعاده السياسية، وليس عن طريق المعالجة الطائفية والمذهبية لتفسير كل حدث أو قضية أو صراع.
المشكلة أيضًا، هي في بعض الحركات الدينية الموزّعة ما بين الطرح التقليدي السلفي وبين حركاتٍ عنفية شوَّهت في ممارساتها واقع المسلمين وصورة الدين نفسه. وقد كانت وما زالت هذه الحركات السياسية الدينية مصدر شرذمة وانقسام على المستويين الوطني والديني، خاصّةً أنّ معظم البلاد العربية قائمة على تعدّدية طائفية أو مذهبية أو إثنية أو قبلية، أو كلّ ما سبق.
لذلك سيبقى المطلوب عربيًّا بناء تيّار عروبي يقوم على مفاهيم فكرية لا تجد تناقضًا مع دور الدين عمومًا في الحياة العربية، ولا تجد تناقضًا مع تعدّدية الأوطان بل تعمل لتكاملها، تيّار عروبي يرفض الصراعات الطائفية والمذهبية ولا يقبل باستخدام العنف لتحقيق أهدافه. تيّار عروبي يدعو للبناء السليم للمؤسّسات العربية المشتركة، وللمنظمّات المدنية المبنيّة على الشورى والعمل الجماعي الخادم لهدف وجودها. تيّار عروبي تكون أولويته الآن هي حماية الوحدة الوطنية في كلّ بلدٍ عربي والعمل لتكريس مفهوم المواطنة وليس الانغماس في وحل الصراعات الأهلية.
إضافة تعليق جديد