البروفيسور محمد ربيع يكتب : إغلاق العقل العربي

مقالات عامة
الكاتب: 

الدكتور محمد ربيع

كاتب وشاعرومفكر - واشنطن دي سي
السبت, أغسطس 7, 2021 - 06

إن مما لا شك فيه أن الواقع العربي يعاني تخلفا حضاريا شاملا وعميقا يشمل كافة نواحي الحياة، بما في ذلك النواحي العلمية والفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية. وفي ضوء هذا الواقع المعتم وانطلاقا منه، أصبح من البديهي أن تقوم التيارات الفكرية والسياسية الرئيسية الناشطة على الساحة العربية، انسجاما مع مصالحها الفئوية والعشائرية والعقائدية الضيقة، بالعمل على إغلاق العقل العربي، وزجه في جتو (ghetto) ثقافي يعمه الظلام وتهيمن عليه الاتكالية ويستنزفه فكر المؤامرة، ولا تصله شمس الحرية ولا نور العلم. وفي مقدمة القوى التي تناضل دون كلل أو ملل من اجل استكمال عملية إغلاق العقل العربي: التيار السلفي الذي يعتز بأصوليته ولا يرى للدين بديلاً كفلسفة اجتماعية ونظام حكم وطريقة في الحياة، والتيار القومي الذي يعتز بثقافته وتاريخه الفاشل ولا يرى بديلاً للقومية كفلسفة اجتماعية وأداة عمل سياسية للتغلب على عوامل الضعف والتجزئة التي تعاني منها الأمة العربية، والتيار المُستغرب الذي يرى في تجربة الغرب الحياتية وفلسفته السياسية والاقتصادية صورة للمستقبل المنشود وقارب نجاة لا بديل له لتحقيق الحلم العربي في حياة تسودها حرية فكرية وسياسية ونهضة اقتصادية وعلمية وتكنولوجية، وذلك إضافة إلى نظم حكم مستبدة يتعبد قادتها ليلا نهارا في هيكل السلطة، ونظام تعليم عقيم يقتل روح الأمل والتأمل الواعي.
إن التمحور الفكري والصراع الإيديولوجي الذي يسود علاقة كل تيار بالآخر كان سببا في دفع كل تيار نحو التقوقع حول نفسه، والقيام ببلورة أفكاره على شكل مقولات وشعارات بسيطة لا يقبل أصحابها إخضاعها لمبدأ النقد والتحليل. وهذا جعل أصحاب الرأي من أتباع كل فلسفة، وبدرجات متفاوتة، يتحولون من مفكرين ومثقفين إلى أصوليين متزمتين، لا يرون بديلاً لفلسفتهم ولا يعترفون بإمكانية صلاحية غيرها، ولا حتى باحتمال الوقوع في الخطأ. وفي جو أيديولوجي – أصولي متزمت أصبح من الصعب الدفاع عن حرية الرأي واتخاذ مواقف تقوم على حرية التعبير، ومن السهل القبول بقوالب فكرية ومواقف وقيم تشكل في مجموعها نفقاً مظلما بلا نوافذ تطل على البحر أو على الآخر. ولما كانت حقائق الواقع تتغير بتغير الظروف ونتيجة لتطور معطيات الحياة، فإن أفكار الأصوليين المتمسكة بكل ما هو قديم من نظريات ومقولات غدت أوهاما، لا تتعامل مع واقع حياتي معاش، ولا تصلح لعصر من العصور. 
وبسبب رفض السلفية الدينية للقومية باعتبارها نزعة علمانية تتعارض مع مفهوم الدين كنظام حكم، ودعوة شعوبية تتعارض مع مفهوم وحدة الأمية الإسلامية، واتجاه القومية إلى الدعوة للعلمانية وفصل الدين عن الدولة والإصرار على خصوصية الأمة العربية وثقافتها القومية، فإن الحوار بين التيارين أصبح كحوار الطر شان، لا يسمع أحدهم الآخر. وفيما يستمر هذا التمحور بين أتباع التيارين، يواصل الواقع العربي مسيرته الثقافية والسياسية المتعثرة متجاوزا كلا التيارين. أما التيار المُستغرب فهو فكر يحاول اقتباس تجربة غريبة عن الواقع العربي وغرسها في تربة غير مهيأة لاستقبالها، وأجواء غير صالحة لنموها، ما يجعله يفتقد القدرة على التواصل مع الجماهير العربية.
الفكر الديني – السلفي هو فكر أصيل ذا صلة حميمة بفلسفة حياتية كان لها دور نهضوي في الماضي البعيد، ما يجعله يستحوذ على قدر كبير من الشرعية. لكن إصرار التاريخ الإنساني وعمليات التطور المجتمعية على السير إلى الأمام دون الالتفات إلى الخلف جعل تلك الفلسفة بشكلها ومعطياتها غير قادرة على استيعاب حقائق العصر، وعاجزة عن القيام بدورها المجتمعي في واقع مختلف كماً ونوعاً عن الماضي السحيق الذي نشأت فيه وتحاول إعادة إحيائه. وإن ما ينطبق على الدعوات الدينية – السلفية من حيث البعد عن الواقع والواقعية، ينطبق إلى حد كبير على الدعوات القومية – التراثية التي تتصرف كوصي على تركة العرب الحضارية وموروثهم الثقافي، وتجعل من نفسها وفكرها سياجا يحمي مخلفات عصري القبلية والزراعة من عادات وتقاليد وعلاقات اجتماعية ومواقف وقيم عفا عليها الزمن منذ زمن. أما التيار المُستغرب، فهو فلسفة تفتقد الشرعية، ومحاولة غير واقعية لفرض تجربة خاصة على واقع يختلف كل الاختلاف من حيث الظروف والمعطيات عن الواقع العربي.  
إلى جانب تلك التيارات، هناك عامليـن آخرين يعملان على إغلاق العقل العربي. الأول والأهم هو نظام تعليمي تربوي تقليدي جامد يقوم بتكريس المفاهيم التي تقدس التراث، ويستخدم طرق الحفظ والتلقين التي تحرم الطلبة من التفكير، ويُلزم الصغير على احترام الكبير في السن حتى لو كان جاهلا، ويفرض على الولد إطاعة أوامر والده وعدم مراجعته حتى لو كان الأب مخطأ، ويملى على الفرد عدم الشكوى حتى لو كان نظام الحكم ظالما والقانون غاشما. إن نظاما تعليميا وتربويا يقوم على الحفظ والتلقين، واعتبار كل ما يأتي من السلطة الأبوية وغير الأبوية أوامر إطاعتها ملزمة، هو نظام يغذي الكسل العقلي والخمول الفكري، ويشجع على الاتكالية والاستسلام للقدر، ويُسهم في إعداد العقل للقبول بالمقولات السلفية والتراثية دون نقد أو تساؤل، باعتبارها حقائق لا تقبل التأويل ولا يُطالها شك.
أما العامل الآخر الذي يعمل بوعي وتصميم على إغلاق العقل العربي فهو نظام الحكم العربي الذي يتصف بالسلطوية، ولا يعترف بالحريات الفردية، ولا يحترم العقل، ويعمل لخدمة مصلحة ذاتية. إن من يحصي عدد الكتب المحظور تداولها في الدول العربية وعدد المفكرين والمثقفين الذين حرموا من إيصال أصواتهم للشعوب العربية بسبب احتكار السلطة للإعلام وسيطرتها عليه، وعدد العلماء العرب الباحثين عن الحرية خارج الوطن العربي يدرك أبعاد سياسات الكبت والعزل التي يتعرض إليها الفكر العربي. إن تصرفات نظم الحكم العربية عامة تؤدي إلى حرمان العقل من فضاء الحرية وحرية التجوال في عالم الفكر والحياة، وتسهم في إغلاقه وتركه فريسة سهلة للأفكار الهدامة والتوجهات الظلامية والتصرفات العبثية والنظريات التآمرية.
إن نظم الحكم العربية عامة لا تزال تتعامل مع المفكر على أساس "هو يفكر أذن هو خائن". أما الفكرالسلفي فيتعامل مع ذات المفكر من زاوية "هو يفكر أذن هو ملحد"، بينما يتعامل الفكر القومي مع المفكر من منطلق "هو يفكر أذن هو عميل ". أما نظام التعليم العربي فيتعامل مع الطالب الذي يستخدم عقله بشكل نقدي من زاوية "هو يفكر أذن هو مشاغب"، بينما تتعامل السلطة الأبوية في البيت مع الطفل الذي يشك في التقاليد من زاوية "هو يفكر إذن هو متمرد". خمسة مواقف تتواجد معاً وتعمل سوياً دون تنسيق على محاصرة العقل العربي والحط من قيمته وإغلاقه، وتدمير احتمالات نهوض الأمة العربية وصولاً إلى التصالح مع الذات والتعايش مع العصر. 
إن العقل لا يختلف كثيراً عن عضلات الجسد الأخرى، إهماله وعدم تدريبه على التفكير والتأمل في معضلات الحياة يؤدي إلى تعوده على الكسل والهروب من المسؤولية، والتحول بفعل الزمن إلى ثروة في طريقها إلى التعفن. إن الوسيلة الوحيدة لتنمية الملكات العقلية وتسليح العقل بأدوات علمية ومواقف أخلاقية لمواجهة التحديات تكمن في تحريره من قيود الايدولوجيا وكبت السلطة الاجتماعية والسياسية، وتدريبه على تجاوز نفسه وفكره باستمرار، وكسر القوالب الفكرية التي تكبله وتحاصره من كل جانب.