الدين والغرائز الفطرية

مقالات عامة
الدكتور محمد ربيع يكتب : الدين والغرائز الفطرية
الكاتب: 

الدكتور محمد ربيع

كاتب وشاعرومفكر - واشنطن دي سي
الجمعة, فبراير 17, 2023 - 07

يولد كل إنسان ولديه عدة غرائز فطرية، قد يكون أهمها غريزة الجنس، وغريزة التملك، وغريزة التآلف والبعد عن الوحدة، وغريزة حب الاستطلاع. غريزة الجنس هي الغريزة التي تحافظ على بقاء الجنس البشري وتكاثره وتنوع طباعه وثقافاته. أما غريزة التملك فتعكس حاجة الإنسان لمتطلبات الحياة من مأكل ومشرب ومسكن، إضافة إلى تطلع الإنسان إلى الاستحواذ على ما يمكن الحصول عليه من ماديات تساعده على التمتع بحياته؛ الأمر الذي يجعل الغريزة هذه تطغى على حياة معظم الناس. لذلك يصر الإنسان على تأمين مستقبله من خلال الحصول على أشياء مادية وغير مادية كثيرة. أما غريزة التآلف والبعد عن الوحدة فتشكل الدافع الذي أدى إلى تكوين المجتمعات الإنسانية على مر العصور. وفيما تقوم التجمعات الحيوانية بمنح أعضائها شعورا بالأمان والاطمئنان حين تسير في قطعان كثيرة العدد، يقوم تنوع الثقافات في المجتمعات الإنسانية بتجزئة المجتمعات إلى فئات مختلفة، ما يجعلها تعمق الفوارق بين البشر، فيما تعزز الروابط الإنسانية داخل كل تجمع ثقافي وديني ومذهبي وطائفي. وتحاول هذه الورقة تحديد أصل الغرائز وعلاقتها بالدين ودورها في حياة البشر.
ربما كانت غريزة حب الاستطلاع أهم الغرائز الفطرية لأنها تسببت في دفع الإنسان على مدى العصور إلى محاولة التعرف على مكونات بيئتة الطبيعة والاجتماعية، بما في ذلك طبيعة الأشياء وميول المخلوقات المحيطة به، وتطوير وسائل تمكنه من الحصول على ما يكفي من الغذاء لتأمين بقائه، وتصنيع معدات تحميه من أعدائه وتجعل البقاء سهلا وآمنا وممتعا. وهذا قاد بالتدريج إلى حدوث تقدم متواصل في علوم الحياة والإدارة والطب والتغذية والأدوية، إلى جانب تصنيع معدات لشن الحروب وصيد الحيوانات وقتل البشر وعلاجهم عند الحاجة، وتسهيل عمليات الاتصال والمواصلات والتنقل عبر المسافات والقارات، وصولا إلى ما نشهده اليوم من تقدم لم يعد بإمكان شخص متابعته، أو بإمكان مؤسسة رصد ما يُحدثه في حياة الناس من تغير بشكل شبه يومي.  وهذا يعني أن غريزة حب الاستطلاع هي أم العلم والاختراع والتقدم في مختلف نواحي الحياة، والدافع الحقيقي الذي يقف خلف نجاج بعض الناس وفشل بعضهم الآخر، وتمكين القلة من التفوق وامتلاك أسباب القوة ومصادر الثروة والمال. لهذا علينا أن لا نخاف الغرائز، بل نقوم بتهذيبها وتقنينها، وأن لا نكبت العواطف، بل نقوم بتنميتها ومساعدتها على التنوع لأنها تعمق وعي الإنسان بإنسانيته وحبه للحياة والآخر. وفي كل هذا، علينا أن نُخضع الغرائز والعواطف وكافة المعتقدات لسلطان العقل والعلم، بعيدا عن النزعة الإيمانية التي تعمق التفرقة بين مختلف الطوائف، والتفكير والتحرك الواعي بعيدا عن التركة التراثية التي تتقادم مع تقادم الأيام وتفقد صلاحيتها.
لكن الغرائز لا تقف عند حدود معينة بصورة تلقائية؛ الأمر الذي جعل من الضروري تنظيمها، وتأطير بعضها بما يكفل عدم اعتداء شخص على حقوق غيره من الناس وإلحاق الأذى بهم. وهذا تسبب في قيام المجتمعات بتطوير التقاليد والأعراف ومنظومات القيم والقوانين بهدف كبح جماح بعض الغرائز مثل غريزة الجنس وتنظيمها، وتهذيب غرائز أخرى مثل غريزة التملك كي لا تتسع فجوة الثروة والقوة في المجتمع كثيرا، مع محاولة ضمان الحرية للجميع. لكن بدلا من ذلك، جاء التحكم في الناس وتصرفاتهم من خلال تنظيمات بدأت بالقبيلة ثم العشيرة ثم الطائفة الدينية، وأخيرا الدولة ذات المؤسسات، ما جعل مجال الحريات يضيق مع كل نقلة  من مجتمع لآخر. ومع أن كل نقلة حملت معها تقدما في مختلف نواحي الحياة، إلا أن الحريات العامة تقلصت في المقابل. ولقد اتجهت الدولة منذ نشئتها في قديم الزمان إلى سن قوانين تُنظم العلاقات بين الناس على أسس حاولت أن تتجاوز القبيلة والعشيرة والطائفة، وتُخضع كافة النشاطات في المجتمع لنظم وترتيبات وقوانين ما تزال تزداد كثرة وتعقيدا، خاصة ما يتعلق منها بالحريات العامة والتبادلات التجارية والنشاطات المالية.  وهذا يعني أن كل نقلة حضارية، وإن حملت معها تقدما من النواحي العلمية والصناعية والتكنولوجية والفكرية، إلا أنها لم تحمل معها دوما تحسننا في الأخلاق أو القيم أو المواقف، إذ اتجهت معظم المجتمعات إلى التركيز على النواحي المادية أكثر من تركيزها على الروحانيات والقيم والمبادئ.
ظهر الدين كمنظومة اجتماعية ثقافية قبل ظهور الدولة بقرون عديدة، وذلك بهدف تخفيف حدة الظلم الذي مارسه الإقطاعي ضد عمال الزراعة والعبيد في المجتمع الزراعي. ولقد قام الدين بتطوير قيم وتقاليد تنهى عن الظلم واستعباد البشر، وتطالب القوي بالتعاطف مع الضعيف والثري بمساعدة الفقير. لكن رجال الدين قاموا فيما بعد بتحويل نظم القيم والتقاليد إلى عقائد مقدسة ادعت أنها نابعة من إرادة إلهية، ما جعل من الصعب المساس بها أو الخروج عليها. ومن أجل التحكم في الناس وتحويلهم إلى قطعان بشرية معدومة الإرادة، قامت المؤسسة الدينية بإخضاع غريزتي الجنس وحب الاستطلاع لقيود قاهرة ليس بإمكان شخص الخروج عليها إلا بالخروج على الدين نفسه. إذ فيما جعلت عملية التزاوج خاضعة لطقوس محددة، جعلت من غير الممكن أن يتم زواج بين رجل وامرأة إلا بمباركتها ودفع رسوم مقابل اتمام مراسم الزواج. وهذا جعل الجنس بالنسبة لأتباع بعض الديانات كالإسلام، هاجسا شبه وجودي سيطر على عقول الشباب وحرمهم من التفكير في أمور حياتهم وتحدياتها التي تتزايد يوما بعد يوم. 
ولما كانت غريزة حب الاستطلاع تعكس رغبة الفرد في التفكير والفعل بحرية، فإن ظهور الأديان والإيمان بها والالتزام بتعاليمها أدى إلى تقييد المؤمن بنصوص وأحكام تسببت في حرمانه من الحرية، وبالتالي تقليص قدراته على الخلق والابتكار وإثراء حياته وحياة غيره من الناس. إلى جانب ذلك، قامت المؤسسة الدينية بتحريم الكثير من الفنون كالرسم والرقص والنحت والموسيقى، ما فرض على أصحاب المواهب هذه إما كبت مواهبهم، أو الخروج على الدين وشرائعه. ومع أن القيم والتقاليد والقوانين جاءت لكبح جماح الغرائز الإنسانية وتهذيبها، إلا أن الدين تجاوز عملية التهذيب لتقييد الغرائز وتحريم بعضها. وحيث أنه ليس باستطاعة إنسان أن يخلق مواهب لنفسه، فإن كافة المواهب لا بد وأن تكون من صنع الخالق، ما يعني أن تقييد الغرائز والمواهب وتحريم بعضها عمل يخالف رغبة الخالق. 
الحرية هي حرية الفكر والعمل والسلوك والتدين والعبادة، أما حرية الاقتران بالجنس الآخر فهي الرغبة في ممارسة الجنس مع من تحب ويحبك من البشر؛ وهذه أمور لا يمكن لإنسان أن يعيش حياة سوية منتجة بدونها. لهذا حين يقوم الدين بحرمان الرجل والمرأة من البوح بحبه للآخر، وحرمان المؤمن من حرية التفكير والإبحار في عام الخيال الواسع، فإن رجال الدين يقومون فعليا بكبت عاطفة الحب وتحريمها أحيانا، وتقييد العقل وحرمانه من التفكير والتأمل في غالبية الأحيان؛ الأمر الذي تسبب في تحول الدين، خاصة في بلاد المسلمين، إلى عدو للحب والحرية على السواء. وهذا جعل المؤمن المتزمت مخلوقا عاجزا عن البوح بمشاعره بصورة تلقائية، وسجينا في زنزانة لا يدخلها نور الحرية، ولا تصلها نسمات الحب، ولا يعكر صفوها فكر أو خيال خلاق. قد يقول البعض أن مصدر الحرمان ليس الدين وإنما رجال الدين، لكن كل ما لدينا من أحكام  وشرائع صادرة عن رجال الدين باسم الدين والخالق.
إن كون الخالق هو مصدر الغرائز، يجعل الغرائز أقوى بكثير من القيود الدنيوية، وذلك لأنه بدونها تصعب الحياة وتفقد رونقها وإثارتها، الأمر الذي جعل الإنسان أمام خيارين: إما كبت غرائزه وحرمان نفسه من العيش حياة منتجة وممتعة، أو الخروج على تعاليم السلطة المهيمنة على المجتمع. وهذا تسبب في تشجيع معظم المؤمنين على مخالفة الأوامر الدينية، واتباع أهوائهم تجاوبا مع غرائزهم وحاجاتهم النفسية، ما يعني اتباع الطبيعة التي فطرهم الله عليها. ولهذا نلاحظ أن أكثر الجماعات الإنسانية فسادا من النواحي الأخلاقية، ونفاقا من النواحي الاجتماعية، وشذوذا من النواحي الجنسية، وفقرا  من النواحي المادية، وبؤسا من النواحي المعيشية هي الجماعات الأكثر تزمتا من النواحي الدينية. وهذا لا ينطبق على المسلمين أو المسيحيين أو اليهود فقط، وإنما ينطبق أيضا على أتباع الديانات "غير السماوية"، من الهندوس والبوذيين وغيرهم. فالإيمان الأعمى هو عدو العقل، والحرمان من الحرية ومتع الحياة هو عدو الضمير، وفي غياب العقل المفكر والضمير الواعي لا يمكن لإنسان أن يكون سويا، أو أمينا مع غيره، أو منتجا من النواحي الفكرية والاقتصادية، أو سعيدا بحياته وراضيا عن نفسه.