استبداد السياسة وتخلف الفكر

مقالات عامة
الدكتور محمد ربيع يكتب : استبداد السياسة وتخلف الفكر
الكاتب: 

الدكتور محمد ربيع

كاتب وشاعرومفكر - واشنطن دي سي
الأحد, فبراير 26, 2023 - 05

حين يكون نظام الحكم مستبداً، فإن الحرية تنعدم في المجتمع، ويشيع الظلم بين الناس، ويتخلف الفكر، وتتراجع الثقافة بصورة تدريجية، ما قد يتسبب في سقوطها ووصولها إلى درجة الانحطاط. ولما كان الفكر هو النبع النقي الذي يغذي عمليات الخلق والابتكار، وكانت الحرية هي البيئة التي توفر للفكر والخيال ما يحتاج إليه من أمان واطمئنان كي يزدهر، فإن انعدام الحرية وتخلف الفكر وتردي الثقافة يؤدي بالضرورة إلى تخلف المجتمع ومؤسساته العامة، وفقدان الثقافة الشعبية ما كان لديها من قيم ومواقف وسلوكيات إيجابية، وطرق تفكير عملية، وأنماط حياتية منفتحة، وطرق إنتاج اقتصادية. 
كان دخول البويهيين إلى بغداد في القرن العاشر الميلادي إيذانا بسقوط الإمبراطورية العربية، واستيلاء العسكر على الخلافة وتحويل الخليفة إلى دمية يتلهون بها. في تلك الفترة، كان الفكر ما يزال في طور التكوين وكان المفكرون القلائل يعانون الغربة والعذاب والتكفير. وفي الواقع، كان معظم ما لدى العرب حينئذ من فكر هي أمور فلسفية مستعارة من اليونان، وعلوم طبيعية ورياضية وطبية وكيميائية في بدايات التكوين، الكثير منها مُستعار من بلاد فارس والهند وآسيا الصغرى. وهذا جعل الفكر بمثابة كائن غريب يعيش على هامش الحياة العربية، فيما يمر بمرحلة تدجين وأقلمة صعبة. ومع سقوط الخلافة لم يجد الفكر الوليد هذا بيتا آمنا يأوي إليه، خاصة في ظل غياب المؤسسات الفكرية والعلمية واستبداد نظام الحكم، وانحراف الحكام وفسادهم، وشراسة قوى الجهل والتجهيل التي حاربت العلم والفكر والخيال والفن باسم الدين. 
وفيما تراجعت الحركة العلمية وتجمدت الثقافة العربية الإسلامية في مكانها، فإن الفكر تقهقر وتحول بالتدريج إلى خرافات وأساطير تم ربطها بالدين كي تحتمي به من اضطهاد الحكم وفقهاء السلاطين. وهكذا دخلت الحركة العلمية في غيبوبة لم تصح منها حتى يومنا هذا، ودخلت الثقافة حالة نزاع أنهكت جسدها وسلبت ما كان لديها من حيوية، فيما أصبح الفكر بمثابة لقيط يعيش مشردا على فتات الأثرياء والفاسدين. وفي ضوء ضعف الثقافة وتراجع حيويتها، لم يعد بإمكانها أن تتطور من الداخل، ما جعلها تصبح عرضة لرياح التغيير الآتية من الخارج. وهذه رياح بدأت تغزو البلاد العربية في أواخر القرن الثامن عشر مع بدء الحملات التبشيرية التي جاءت من أوروبا الغربية طمعا في ثروات العرب؛ الأمر الذي تسبب في صحوة الفكر العربي بعد غفوة طويلة استمرت نحو ثمانية قرون.
ولكن بدلا من البدء حيث انتهى علماء الغرب والبناء على إنجازاتهم العلمية والفكرية، وجد الفكر العربي نفسه، تحت ضغوط ثقافة مهترئة تعيش على صيت تراثها، أن عليه العودة إلى النقطة التي توقف عندها، وهي نقطة تمثل حصيلة ما توصل إليه الفكر العربي في زمن حكام بني أمية وبني العباس من آراء ونظريات كان الزمن قد تجاوزه منطقا وعلما وتجربة بقرون. ولما كان الفكر هذا قد توقف عن التطور وأصبح لقيطا بحكم قفل باب الاجتهاد في الدين الذي شرعه المتطرفون من أمثال ابن حنبل والغزالي وابن تيمية وأتباع مذهب الجبرية، فإن التحرر من هذا القيد بالكامل ما يزال صعبا للغاية. ولهذا نلاحظ أن معظم المحاولات الجادة التي استهدفت تجديد الفكر الديني في بدايات النهضة لم تحاول مواجهة فكر الجبرية وكسر القيود التي فرضها  أتباعه، وإنما حاولت جاهدة أن تشق لها مخرجا من غيوم فكر الماضي الذي كان سبب تخلف المجتمع والإنسان العربي منذ البداية. وفي ضوء صعوبة شق طريق بالالتفاف حول فكر ابن حنبل وابن تيمية، وأن الالتفاف لا يفي بالغرض المطلوب، فإن الفكر الجديد جاء بعضه ليؤكد شرعية الفكر القديم على الرغم مما يُعانيه من عقم، وذلك على أمل الحصول على شرعية تؤهله لمواصلة التفكير بصورة مختلفة. لكن المُجددين اكتشفوا بعد جهد جهيد، واتهام بعضهم بالكفر والإلحاد أنه ليس بالإمكان الخروج من المأزق هذا إلا بالخروج على فكر الأقدمين جملة وتفصيلا.
مع ذلك، ما كادت الحركة الفكرية هذه تخطو خطواتها الأولى حتى تم اكتشاف الثروة النفطية في أكثر بقاع العالم العربي تخلفا من النواحي الفكرية والعلمية والثقافية والاقتصادية. وهذا فرض على حركة التجديد الفكري إما العمل مع أثرياء النفط والسعي لكسب ودهم، أو التصادم معهم في معركة غير متكافئة لانهم يملكون المال والجيوش وقنوات الإعلام الفضائية وفقهاء سلاطين بلا عدد. وفيما قام البعض بتفصيل فتاواهم الجديدة لتعكس رغبات وشهوات رجال النفط، اضطر العلماء والمثقفون الملتزمون إلى هجرة أوطانهم واللجوء إلى بلاد بعيدة ظنا منهم أنها توفر لأمثالهم حرية الرأي والنشر والنشاط. ومع أن البعض نجح في نشر أعمال جيدة قامت بتعرية الكثير من الأخطاء التي وقع فيها فقهاء الماضي، وكشف الكثير من الجرائم التي ارتكبتها جيوش المسلمين، إلا أن تلك الأعمال لم تخرج عن النص الشرعي، ما جعل المعركة بين المحافظين والمجددين تدور حول التفسير والتأويل ولا تقترب من كسر قيود الماضي. 
ولما كانت النهضة بحاجة لمؤسسات وعمل جماعي وفكر يتجاوز الواقع ويقطع حبل الوريد بينه وبين الماضي، فإن غياب المؤسسات وانعدام الحرية جعل كل الجهود الفردية تفشل في تغيير نظام حكم أو سياسة دولة، أو حتى مناهج دراسية في جامعة أو مدرسة. ولما كانت الدول الاستعمارية القديمة والجديدة ترى أن من مصلحتها أن يستمر تخلف العرب والمسلمين حتى تستمر في استغلال ثرواتهم واستباحة أوطانهم، فإنها وجدت أن مصالحها تملي عليها الوقوف إلى جانب فكر التخلف وحكم الطغاة، وضد الفكر النهضوي والمفكرين الملتزمين بقضايا الإنسان والعلم في بلادهم. من ناحية ثانية، كان من الصعب أن يصل الفكر النهضوي إلى الشارع العربي ويؤثر في الجماهير التي هي في أمس الحاجة إليه، وذلك لأن الغالبية العظمى من تلك الجماهير ما تزال تغط في نوم عميق تحلم بأمجاد الماضي الذي تجاوزه الزمن علما وثقافة واقتصادا وتكنولوجيا بأكثر  من ألف سنة. وما دامت مدارسنا وجامعاتنا لا تفتح المجال لحرية رأي ولا لنقاش قضية ذات علاقة بالفكر الديني أو بنظم الحكم، فإن من المؤكد أن تبقى الجماهير العربية غائبة عن الوعي العلمي والتفكير المنطقي، وعاجزة عن استخدام العقل لفهم معنى التطور والتقدم، أو حتى فحوى الدين الذي تؤمن به.