نظام التعليم وأزمة نهوض العرب وتقدمهم

إن نجاح الإنسان في تطوير اللغة وفنون القراءة والكتابة، جعل من غير الممكن قيام دولة أو مؤسسة باحتكار المعرفة؛ إذ أصبحت المعرفة عرضة للانتقال من شخص لآخر ومن مجتمع لآخر بسهولة. ومع شيوع المعرفة وتطوير المزيد منها واكتشاف الكثير من قوانين الطبيعة، فإن الأقدر على امتلاك المعرفة من الناس أصبح أقدر على فهم الأمور المعقدة وتولي مهام القيادة في المجتمع. في المقابل، لم يكن باستطاعة المجتمعات التي هيمن الجهل عليها أن تحصل على المعرفة، ما جعل أصحاب الخبرة هم الحكماء وأصحاب المعرفة؛ الأمر الذي مكن هؤلاء من الاستيلاء على أمور القيادة في مجتمعاتهم وحرمانها من التطور. لكن المعرفة التي يملكها الحكماء هي خبرة تنبع من الماضي الذي نشأت فيه وضمن ظروفه، ما يجعلها غير صالحة لقيادة مجتمعاتها نحو الأمام حين تتغير ظروف الحياة؛ الأمر الذي جعل القادة التقليديين يعملون من دون وعي على جر مجتمعاتهم إلى الوراء.

من ناحية ثانية، يشير التاريخ إلى أن النهضة والتقدم لهما متطلبات عديدة، قد يكون أهمها: أولاً، حدوث تطور تكنولوجي في مجال الاقتصاد ينتتج عنه انتقال المجتمع إلى نمط إنتاجي جديد؛ ثانيا، حدوث تحولات اجتماعية وثقافية عميقة في المجتمع ينتج عنها تغيير الهياكل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؛ ثالثا، حدوث تراكم معرفي من خلال مؤسسات قادرة على نقل المعرفة وإنتاج المزيد منها ونشرها في المجتمع؛ ورابعا، استمرار أفراد المجتمع في النضال من أجل التحرر من الكبت والظلم واستعادة حقوقه في المشاركة في العملية السياسية. ومع أن الشرط الرابع هذا جاء في حالات عدة من خلال العنف والثورة، إلا أن عالم اليوم لم يعد يسمح بذلك، لان العنف يؤدي إلى تدمير ما هو كائن، بدلا من بناء ما يجب أن يكون. الأمر الذي يوجب أن يكون النضال سلميا وشعبيا، وأن يقبل قادة الحراك الشعبي منطق التدرج في عمليات الاصلاح والتغيير. 

وبالنظر إلى تجارب الشعوب التي نهضت بعد عصور من التخلف، نجد أن كل منها قام بالتجاوب مع استحقاقات شرطين أو أكثر من شروط النهوض الأساسية. فألمانيا حين قررت اللحاق ببريطانيا في القرن التاسع عشر، لجأت إلى تطوير التكنولوجيا الصناعية بالتركيز على التعليم الحرفي والصناعي والمهني؛ وهذا أفضى إلى إحداث تحولات اجتماعية وثقافية غير مسبوقة في المجتمع الألماني نقلته إلى عصر الصناعة بقيمه وتقاليده ونمط إنتاجه وهياكله الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المميزة. ولقد كررت ألمانيا التجربة نفسها حين وجدت نفسها مضطرة لإعادة بناء اقتصادها الذي دمرته الحرب العالمية الثانية، ما جعلها تصنع معجزة اقتصادية خلال 15 سنة وضعتها في مقدمة الدول الصناعية. أما اليابان فقد بدأت مسيرتها النهضوية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بعد أن أدرك قادتها خطر التخلف وأهمية التقدم، وما كان يحيط بهم من أطماع استعمارية غربية. وفي سعيها للنهوض، قامت اليابان بإحداث تحولات اجتماعية ثقافية عميقة في حياة المجتمع، أدت إلى تطوير البنية الثقافية والفكرية والاجتماعية، وتسببت في قطع صلة الحاضر بالماضي ونظم حياته التعليمية والاجتماعية والاقتصادية؛ إذ فيما قامت بالقضاء على نظام الاقطاع، والاستفادة من تجربة ألمانيا في تطوير تكنولوجيا صناعية تفوقت خلال عقود على غالبية دول العالم. 

أما الصين فقد اتجهت إلى الاستفادة من تجربتي اليابان وألمانيا في آن واحد، إذ قامت بثورة ثقافية واسعة بدأها ماو تسيدونج في عام 1966. ومع أن تلك الثورة كانت مكلفة للغاية من النواحي الإنسانية، إلا أنها مهدت الطريق للثورة الصناعية حين قررت قيادة الصين عام 1978 التحول من النظام الاشتراكي إلى نظام رأسمالية الدولة. ومع التركيز على التعليم الصناعي والمهني، والقيام بتشييد بنية تحتية حديثة، فإن الصين تمكنت من تحقيق نهضة اقتصادية وعلمية خلال عقود، ما جعل اقتصادها يصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم عام 2010. أما الدول التي بدأت نهضتها بالتركيز على المعرفة ونوعية التعليم، مثل سنغافورة وكوريا الجنوبية والهند، فقد استطاعت أن تحقق إنجازات تكنولوجية وعلمية وصناعية كبيرة خلال عقود. فالناتج القومي لسنغافورة الفقيرة في مواردها الطبيعية وسكانها البالغ عددهم نحو 6 ملايين يتجاوز بنحو 40% الناتج القومي لمصر الثرية بمواردها الطبيعية وعدد سكانها البالغ نحو 100 مليون نسمة. 

يتضح مما سبق أن نظام التعليم هو النظام الوحيد الذي يمر من خلاله كل من يدرس في مدرسة أو جامعة، ما يجعله يؤثر في كافة أوجه الحياة في المجتمع من خلال قيامه بتزويد تلاميذه وطلابه بالعلوم والقيم السليمة، وفي مقدمتها المواقف السليمة من الحياة والعلم والوقت والعمل. إضافة إلى ذلك، يعتبر نظام التعليم أهم الوسائل التي يقوم المجتمع من خلالها بالسعي لاستكمال متطلبات النهضة وتحقيق التقدم. فنظام التعليم يضم أهم المؤسسات المعنية باكتساب المعرفة وتطويرها وخلق المزيد منها ونشرها في المجتمع، والنبع النقي الذي ترشف منه الأجيال المتتابعة مبادئ العلم وطرق التفكير، ويتم في ردهاته وبين جدرانه تفاعل الأفكار المختلفة والمتباينة بطرق سلمية تتيح لكافة المشاركين فرصة دراسة الماضي الحاضر واستشراف آفاق المستقبل. نظام التعليم هو المطبخ الذي يقوم بإعداد الطعام الذي يشمل كل ما هو طازج من خضار ولحوم وبهارات على شكل قيم جديدة مفيدة للصحة البدنية والنفسية والعقلية، ودواء لبعض أمراض المجتمع ذات البعد الثقافي. وإلى جانب ذلك كله، يقوم نظام التعليم بنشر الوعي السليم في المجتمع بين المنتمين إليه، وهذا أمر في غاية الأهمية لأن الوعي هو العامل الذي يحرك عمليات الإصلاح والتغيير المطالبة بالحرية والعدالة ويقودها، فيما يضمن لها النجاح والديمومة في المدى الطويل. 

ولو وضعنا الحقائق والآراء هذه في إطارها المجتمعي والتاريخي السليم فسوف نكتشف أن العرب لم يقوموا بالتجاوب مع استحقاقات أي من متطلبات النهضة والتقدم التي جاء ذكرها أعلاه، بل لم يستطع العرب تكوين وعي بأهمية هذه العوامل. إذ بدلا من أن يقوموا بإحداث تحولات اجتماعية وثقافية عميقة تفضي إلى تغيير الهياكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التقليدية التي عفى عليها الزمن، نجدهم يقومون باحياء تلك الهياكل والاعتزاز بها وتكريسها في غالبية دولهم. كما أن العرب لم يقوموا بتطوير نظم التعليم في بلادهم بالكيفية المطلوبة للتجاوب مع استحقاقات التعليم الصناعي أو المهني أو حتى الحرفي، إضافة إلى إهمالهم متطلبات تطوير تكنولوجيا الإنتاج، ما جعلهم يقبلون التواكل والظلم والكبت بديلا للحرية. لهذا كله يمكن القول أن العرب لهم عيون ترى لكنها لا تبصر، ولهم آذان تصغي للنميمة والخرافات ولكنها تسمع طبول الخطر المحدق بهم من كل جانب، ولهم عقول ذكية لكنها لا تفكر، ولهم أيدي وأرجل لكنها لا تنتج شيئا ذا قيمة في هذا العصر، حتى ما يكفي لسداد حاجتهم من الطعام.