امرأة بضمان محضر استلام

مقالات عامة
الكاتب ناصر خليفة يكتب : امرأة بضمان محضر استلام
الكاتب: 

الكاتب ناصر خليفة

كاتب حر
الجمعة, يوليو 28, 2023 - 09

اقتربت الساعة من تمام الواحدة بعد منتصف ليلة صيفية حارة في مُناخها وأحداثها ..كنت بصحبة صديق لي  يُدعى الشيخ وليد الحنبولي، هو شيخٌ لقريتنا إحدى قرى محافظة المنيا في شمال الصعيد  ..القرية وُزِعت على ثلاثة مشايخ هو واحد منهم، وبشهادة الأغلبية هو أكثرهم بذلا للجهد والوقت في رأب الصدع وإصلاح ذات البَّين  ولمّ الشمل والتحكيم في الجلسات العُرفية وبالتعاون مع آخرين وبالتواصل مع الجهات الأمنية، لذلك هو قائم بأعمال العمدة عن استحقاق .. 

 في تلك الليلة كنت معه كضيفين في بيت أحد أقاربي عندما رن جرس هاتف الشيخ وليد، كان المتصل هو عمدة قرية أخري مجاورة.. فهمت من ردود الشيخ وليد أن هناك مشكلة محتدمة كان أحد طرفيها شابٌ من قريتنا وفجأة تركت بيت أبيها وعادت لبيت زوجها  .. انتهت المكالمة وإذ بالشيخ وليد يتصل بهذا الشاب ليسأله فيما أبلغه به العمدة  فكانت الإجابة أن الزوجة جاءت برضاها ورغبتها ولم تأت غصبا عنها، وهذا ما استراح له الشيخ وليد وجعله مطمئنا .. بعد المكالمة حدَّثَنا الشيخ وليد بإيجاز عن مشكلة هذا الشاب وزوجته ولم يقطع حديثه غير رنات هاتفه، كان المتصل هو عمدة قرية والد تلك الزوجة .. فأبلغه الشيخ وليد بما قاله الزوج بأن الزوجة جاءت برضاها ورغبتها! لكن يبدو أن الموقف كان شديد الاحتدام مما جعل العمدة يطلب من الشيخ وليد أن يتدخل ويعيد المرأة لأهلها قبل حدوث صدام بين الأسرتين وبالتالي بين القريتين وما لا يُحمد عقباه لذلك قال الشيخ وليد للعمدة : لو سمحت يا عمدة وقَّف كل حاجة وأنا قايم اروح بنفسي للولد واشوف ايه اللي حصل بالظبط واكلمك من هناك ..أغلق الشيخ وليد الهاتف ونظر إليَ وهو يقول : شُفت يا صاحبي آدي المشيخة وهَّم المشيخة ! تعالى معايا بقا ! -قلت : أروح فين يا عم دي الساعة واحدة أنت عاوزني أبات برة البيت ؟! -قال مبتسما : بس تعالى يا راجل  يمكن تطلع بخبر حلو في صفحة الحوادث ! قالها ضاحكا آخذا بيدي، فما كان مني غير مرافقته .. مشينا مترجلين في اتجاه بيت الزوج صاحب المشكلة وكان في جنوب القرية في منطقة لم أرها منذ سنوات بعيدة، وقد تغيرت معالمها السكنية والسكانية أيضا، لكن بقيت بعض آثار البيوت القديمة مفعمة بذكريات الطفولة ..

 اقتربنا من البيت فسمعنا أصواتَ هرج ومرج دخلنا وألقينا التحية ثم جلسنا رحَّبَ المتواجدون بالشيخ وليد، أما أنا فمنهم من عرفني ومنهم من لم يعرفني فتعجب لحضوري .! كان من بين الحاضرين بعضٌ من أقارب الزوجة والذين سبقونا إلى بيت الزوج .. انصب حديثهم على اعتبار أن ابنتهم بإيعاز وتحريض من زوجها ؛ارتكبت خطأً "مُشين" عندما تركت بيت أبيها دون علمِه متوجهة إلى قسم الشرطة وتصرفت مثل هذا التصرف رغم أنف أهلها جميعا، لذلك اعتبروها خارجة عن طوعهم وعاصية لأوامرهم ، وهذا التصرف في عُرفِهم هو معيَّبة ومثار للمعايرة ! ضاق الشيخ وليد ذرعا  بإسلوبهم ومنطقهم لذلك أصر على سماع رأي الزوجة .. فخرجت علينا امرأة صغيرة السن حديثة الزواج،  تقارب الثامنة عشر من عُمرها، رأيتها وقد أصابها الوهن واعتلى  الشحوب وجهها تبدو خائفة قلقة تائهة مضطربة..  التفتُ نحو أقاربها فوجدتهم ينظرون إليها بكل حُنق وازدراء وامتعاض .. سألها الشيخ وليد أمام الجميع : انتي موافقة ترجعي مع أعمامك وأخوالك والا عاوزة تقعدي في بيتك مع جوزك !؟ قالت الزوجة مرتبكة : "لع أنا عاوزة اقعد هنا في بيت جوزي أنا اخاف امشي معاهم" 

فبُهِت أقاربها وغضبوا من كلامها أيما غصب، فهَمَّ أحدهم ليصفعها فمنعه أخوه على الفور ! وكادت أن تندلع معركة بين الطرفين لكن الشيخ وليد استطاع بخبرته تهدئة الموقف وأعاد كلٌ إلى مكانه ثم عاد ليتكلم في صُلب الموضوع ليحسم الموقف ويمنع الاشتباك المرتقب .. اقتربت الساعة  من الرابعة فجرا ولازال الجدال مستمرا صعودا وهبوطا ! أومأت إلى صديقي لأسأله : طيب أنت شايف الموضوع دا يتحل إزاي ؟! فاقترب ليهمس في أذني : مينفعش ياخدوها من هنا ومينفعش تقعد هنا برضو ! فقلت له هامسا مبتسما : طيب مينفعش أنا آخد بعضي وأمشي من هنا ؟! فضحك في موقف لا يقبل الضحك، فعاد سريعا لأجواء الموقف وقال موجها كلامه لأهل الزوجة : بصو يا جماعة صلوا على اللي يشفع فيكو- عليه الصلاة والسلام- :  بكل حال من الأحوال مينفعش تاخدوا بنتكم من هنا كده عِيبه كبيرة في حق بلدنا كلها ! احنا نطلع كلنا كده على قسم الشرطة ومن هناك تستلموها بشرط بكرة ترجعوها معززة مكرّمة ! فقال الحاضرون على مضض : "موافقين يا شيخ وليد يالا بينا".. 

 انطلقوا في طريقهم لقسم الشرطة، وانطلقت أنا مسرعا في طريقي لمنزلي في شمال القرية افكر فيما حدث آسفا على حال امرأة ضعيفة مغلوبة على أمرِها، امرأة  وُضِعَت بين مطرقة الأهل والعُرف من جهة  وسندان الرغبة في العودة لزوجها وطفلها وحياتها الطبيعية من جهة أخرى ، هي لم ترتكب جُرما عندما أرادت أن تعود لزوجها الذي يبدو أنها  تُحبه وترغب في استمرار حياتها معه !! فبأي حق يسلبون حرية قرارها؟! أين كرامتها بل أين آدميتها وحق زوجها وطفلها في حياة أسرية مستقرة !.. هي لم تهرب من بيت أبيها هي رجعت لبيت زوجها ! فلم تُذنِب في ذلك ولم تأثَم !

 عُدت للبيت متأخرا مستاءا، قصَصتُ على زوجتي ما شاهدته، تعاطفت مع صاحبة المشكلة فكان ذلك تبريرا عاطفيا لعودتي للبيت في تلك الساعةِ المتأخرة !.. بعد ساعة تقريبا  اتصلت بصديقي الحنبولي الذي قال : خلاص حَلّيناها ! 
حَلّيتوها ازاي ؟! : استلمها أهلها  بعد ما تعهدوا كتابة للمأمور بأن يرجعوها بُكره إن شاء الله .!

 في مساء اليوم التالي اتصلت على صديقي لأسأله عَمَّ آلت إليه الحكاية؟!
فقال : الحمد لله البنت رجعت لبيت جوزها النهارده..
قلت : وهل عادت معززة مُكرَّمة أم بضمان محضر استلام !
فقال ضاحكا : إحسبها زي متحسبها المهم إنها رجعت .!
تنويه : انتهت المشكلة ولم تنته الحكاية !.